أولمبياد العصور الوسطى في باريس
لا يمكن أن تجسد صورة الغرب الحالي بشكل أدق من إرسال رسالة تحتوي على “فيروس الطاعون” إلى وزير الداخلية الفرنسي يوم الأحد. كما أن حفل افتتاح الألعاب الأولمبية، بما حمله من رموز تعود بنا إلى العصور الوسطى، يمثل انعكاسًا دقيقًا للوضع العالمي الحالي.
كل أشكال الانحطاط التي تم تجميلها وتقديسها، والتي قدمت تحت ستار “التسامح مع الاختلافات” وفقًا للمنظمين، تعكس واقعًا صريحًا. وبينما كان يتم الاحتفال في باريس بأجواء من الصخب والجنون، كان آلاف الشباب والأطفال يذبحون على بُعد بضع مئات من الكيلومترات شمالًا.
حالة “عدم الوعي” هذه يمكن أن تُعبر عنها تماماً شخصية ماري أنطوانيت، التي استقبلت بدورها على خشبة المسرح وهي تحمل رأسها بيدها. كل عنصر من عناصر الافتتاح المثير للجدل بقدر ما كان مزعجا ومثيراً للاشمئزاز، كان واضحاً وصريحاً لدرجة يصعب التصديق فيها أنه لم يُخطط له بعناية.
على سبيل المثال عرض المثليين، إن تقديم هذا العرض إلى جانب لوحة “العشاء الأخير” قد أنتج معاني أعمق بالنسبة لأولئك المهتمين بهذه المواضيع، ولكنه أيضًا يمكن تفسيره في سياق الجدل حول ما إذا كان أحد الجالسين على الطاولة في الصورة الأصلية “رجلًا أم امرأة”؛ وهو ما يمكن أن يُعتبر ذا دلالة بالنسبة للنقطة التي بدأت منها القصة وكيفية ارتباطها باليوم.
ومع ذلك، فإن قضية مجتمع المثليين، كانت محل جدل كبير في تركيا مؤخرًا، وأصبحت الدفاعات السطحية التي قُدمت في إطار “كل واحد له حياته، لماذا تتدخلون؟” تبرز الآن مدى سهولة إدخال هذا الموضوع إلى بيوت العالم أجمع. أي أنهم قد اختلطوا بنا. وهناك العديد من التحليلات التي ترى في ذلك مشروعًا عالميًا، ولكن هذا موضوع آخر. دعوني أؤكد أن نفوذ اللوبي المثلي يتجاوز نفوذ اللوبي اليهودي، أو على الأقل هو جزء منه.
عند توسيع زاوية الرؤية نلاحظ أن الدول التي تنظم وتنتقد الألعاب الأولمبية تتمركز حول الخطوط الأمامية للصراع العالمي بين الشرق والغرب. وهذا يدعونا إلى استخلاص درس مهم، لا يمكننا الاكتفاء بتصنيف هذه الظاهرة على أنها مجرد فضيحة محصورة في أوروبا وأمريكا، حيث شهدنا مؤخرًا رفع أعلام مجتمع المثليين بشكل رسمي في البيت الأبيض والسفارات الأمريكية في تركيا وغيرها. إنها مرض معد، وكما تعلمون، نحن في عصر الأوبئة.
رغم أن هناك نخبة حاكمة لديها رؤية محددة ولديها فكرة عما ينبغي أن يكون العالم خارج حدودهم، إلا أننا شهدنا أن الغرب فقد وعيه بما يحدث حوله. وهذا أمر بالغ الأهمية، ويمكن اعتباره بمثابة وقوعهم في الفخ الذي نصبوه لغيرهم.
إن استقبال نتنياهو بالتصفيق الحار في الكونجرس وفرش السجاد الأحمر أمامه، وهو أمر طبيعي في مثل هذه الحالات، يمكن وضعه في نفس السياق. لأن ذلك لا يكشف عن أثر الدم، لكن هذا كله يجري تحت أعين العالم.
تصفيق حاد وهتافات عالية مصحوبة بتجاهل تام لمجزرة الأطفال، وفرنسا تعاني من غزو الفئران “وهو رمز للطاعون”، وإلباس فرسان القيامة لعلم الأولمبياد الذي يمثل القارات الخمس، وشعار “إذا لم يجدوا الخبز فليأكلو البسكويت”، وأعمال تخريبية قبل حفل الافتتاح، وتعظيم كل أشكال الانحراف الجنسي، بما في ذلك التحرش الجنسي بالأطفال، وتكرار ذات الخطايا من قبل الكنيسة الكاثوليكية المنتقدة للعروض، مع عدم إدراك كيف ينظر العالم إلى الغرب الآن، هذه هي الكوارث. سواء في فرنسا، أو في أوروبا بشكل عام، أو في الغرب بما في ذلك الولايات المتحدة. هكذا تُنصب “المقصلة”.
إن تصريحات الرئيس قبل أربعة أيام حول انتهاء صلاحية النظام العالمي الذي أُسس لحماية مصالح المنتصرين في الحرب العالمية الثانية الاقتصادية والسياسية والعسكرية والدبلوماسية، تعكس كيف يتدهور هذا النظام في سياق السوسيولوجيا والثقافة الغربية، كما يتضح من “الواقع” المشار إليه أعلاه.
لن نطيل الحديث، هذا المسار يقوض حتى أسس وقيم عصر النهضة بما في ذلك مفهوم “تقديس الإنسان” وتحديه، والعلمانية. وهكذا فإننا نشهد عودة إلى العصور الوسطى.
بمعنى آخر، لا يمكن حصر الموضوع في مجرد “تصاعد اليمين في أوروبا”، فقد وجد الغرب نفسه مضطرًا إلى التعامل مع القادة المستبدين الذين كان يلعنهم قبل فترة قصيرة وذلك بسبب قدرتهم على حل الأزمات العالمية. وهذا الأمر يفتح الباب داخل اليمين الغربي للبحث عن غرب أكثر اعتدالًا وعقلانية. وبالتالي، وبينما يعود الغرب إلى الفاشية/النازية التي هدمها بنفسه، فإن اليمين الحالي قد يبدو أكثر عقلانية.
باختصار إن مخاوفهم واستيائهم لا يرجع في الواقع إلى تعثر القيم الغربية، بل إلى احتمال فقدان نظامهم ومكاسبهم.
دعونا نتحدث عن التطورات الأخيرة في العلاقات التركية الإسرائيلية.
المرحلة التي تطورت بتصريح الرئيس “سنذهب إلى هناك أيضاً”، حيث اتهمت أنقرة تل أبيب بأنها تتبع نهج صدام حسين، واتهمت تل أبيب أنقرة بأنها تتبع نهج هتلر.
هذه إحدى الأمثلة على الفواتير التي فرضتها السياسات المرتبطة بالغرب بعد مرور سنوات. كان يجب عدم تسليم العراق وليبيا، أي صدام والقذافي.
الأمر نفسه حدث في سوريا. هذه هي مشكلات عدم تعلم الدروس من المآزق التي تخلقها السياسات الأمريكية. والآن يتم تطوير محاولات للتطبيع مع دمشق من خلال تجسيد نوع من “الشراكة” في المنطقة.
مصر والعراق والإمارات وقطر والسعودية وروسيا والصين، وكذلك تركيا، يدعمون تطبيع العلاقات مع سوريا. كما أن زحف إسرائيل إلى الشمال بعد غزة يعزز هذا الاتجاه.
والغريب أن هناك دولًا أوروبية أيضًا تشارك في هذا التوجه، وترغب عل الأقل في التطبيع مع سوريا، مثل إيطاليا. سياسة الولايات المتحدة تجاه سوريا تزداد انعزالاً . والولايات المتحدة التي كانت شريكًا في إبادة غزة، تبدو أكثر ضعفاً وانحناء في المنطقة نتيجة لذلك.
في الولايات المتحدة، بدأت التحذيرات المتعلقة بهذا الموضوع تصبح أكثر وضوحًا. يتم التأكيد على مراجعة سياسة سوريا، واحتمالية إبعاد أمريكا عن المنطقة، كما يتم التشديد على أن تركيا على وشك “كشف الستار الأخير” في سوريا.
إن تصريح الرئيس الأخير تجاه إسرائيل يعكس هذا السياق ويزيد من الضغوط، ولكنه لا يعني إعلان حرب أو ما شابه.
ندرت أرسنال،،، صحفي وكاتب تركي