البروفيسور محمد البغدادي: لا يمكن توطين العلم في أي بلد إلا بلغة أهله
قال مؤلف أول موسوعة بالعربية في الفيزياء النظرية الدكتور محمد البغدادي إنه لا يمكن توطين العلم في أي بلد إلا بلغته، ودعا في حوار مع الجزيرة نت إلى التفريق بين لغة التدريس ولغة البحث العلمي، فالتدريس -بحسبه- في كل بلاد العالم يتم باللغة الوطنية، ولا يوجد بلد مهما كان صغيرا إلا ويدرس بلغته، في حين أن لغة البحث العلمي المتداولة حاليا هي اللغة الإنجليزية.
وتعليقا على اللغة الأفضل لتدريس العلوم في الثانوية العربية أم الأجنبية، قال مؤسس مختبر الفيزياء بجامعة الرباط إن هذه المسألة يجب أن لا تناقش أصلا، وعلى أنصار الفرنسية والداعين إلى التدريس بلغة أجنبية تقديم حججهم والإجابة على سؤال: لماذا؟
ولفت البغدادي إلى أن اللغة العربية اليوم تعيش حالة انحطاط كبير جدا، متسائلا “هل نريد الخروج من هذا الانحطاط أو أن نغرق فيه أكثر فأكثر؟”، وأضاف “عندما نقول ونعتقد أن لغتنا لا تصلح للعلم فهذا يعني أننا أيضا لا نصلح ولن نفهم هذا العلم، وهذه التمثلات الذاتية موجودة للأسف”.
قال إن الطلبة يتعلمون نظريا باللغة الأجنبية، لكنهم في الحقيقة يدرسون بلغة هي خليط بين العربية والأجنبية ويواجهون صعوبات في فهم العلوم، وقال “الذين لا يعرفون هذا الواقع يمكنهم أن يقولوا ما يريدون”.
فيما يلي نص الحوار:
هل صادفتم صعوبات في إصدار موسوعة حول أسس الفيزياء المعاصرة في خمسة مجلدات باللغة العربية؟
الكتابة العلمية باللغة العربية لا تختلف عن الكتابة بلغات أخرى، المشكل الوحيد الذي اعترضني كان في الاصطلاحات، ففي بعض الحالات يكون المصطلح العلمي بالعربية معروفا وشائعا، وفي حالات عديدة لا يكون كذلك لأن النظرية لا تكون معروفة باللغة العربية وهنا كنت “أخترعه”.
وقد وضعت في نهاية كل مجلد معجما للمصطلحات باللغة العربية مع مقابلها باللغة الإنجليزية لأنها اللغة العلمية الشائعة الآن، وباللغة الفرنسية إذا كان هناك اختلاف جدي وصريح بين اللغتين، وهذا ما فعلته في الكتب التي ترجمتها للعربية.
وفي نظري، المصطلح العلمي ليس سوى فزاعة يشهرها الكثيرون بهدف تخويف الناس من الكتابة بلغتهم والتفكير بها.
فمثلا، كتب مؤسس الفيزياء الحديثة نيوتن ونظرية الميكانيك المعروفة باسمه، استعمل اصطلاح “كمية الحركة”، وترجم المصطلح إلى مختلف اللغات الأوروبية، ثم وجد المؤلفون بعده أن هذا الاصطلاح لا يعبر عن المفهوم، فغيروه إلى “العزم الخطي” في الألمانية والإنجليزية، في حين احتفظ الفرنسيون بالكلمة كما وضعها نيوتن.
وسواء كان الاصطلاح هو كمية الحركة أو العزم الخطي أو الاندفاع، فالمهم أن لديك مقدارين فيزيائيين مضروبا أحدهما في الآخر سماه المؤسس العظيم لهذا العلم كمية الحركة وغيّره المؤلفون إلى اصطلاحات أخرى.
لماذا الترجمة إلى العربية؟ علما أنكم درستم الفيزياء بالفرنسية في جامعة الرباط وفي فرنسا، كما أن الطلبة أيضا ما زالوا يدرسونها باللغة الأجنبية؟
تغطي موسوعة أسس الفيزياء المعاصرة تقريبا كل ما يحتاجه الفيزيائي الجدي الذي يريد التخصص في الفيزياء الرياضية خلال الخمس سنوات الأولى من دراسته الجامعية، وهي تقريبا تترجم الدروس التي ألقيتها باللغة الفرنسية خلال فترة تدريسي.
نظريا يدرس الطلبة باللغة الأجنبية لكنهم في الحقيقة يدرسون بلغة هي خليط بين العربية والأجنبية، والطالب -مع الأسف- لا يستعمل الكتب والمراجع، بل يكتفي بالمقرر الذي يعطيه الأستاذ، رغم أن المكتبات الجامعية تخصص ميزانية لشراء تلك المراجع، وأقول هذا الكلام استنادا إلى خبرتي في الجامعة.
ولذلك فالترجمة إلى اللغة العربية ستساعد الطلبة على فهم العلم بلغتهم ولن يضطروا لبذل مجهود مضاعف لاستيعاب النظريات العلمية.
كيف تقيم واقع ترجمة العلوم والكتابة العلمية باللغة العربية؟
في المغرب لا توجد مراجع مترجمة إلى اللغة العربية، الخبرة الحقيقية موجودة في سوريا كون أغلب الأساتذة كتبوا دروسهم باللغة العربية، وربما هي البلد الوحيد الذي يدرس كل العلوم باللغة العربية منذ تأسيس الجامعة في دمشق.
ما الأفضل بالنسبة لطالب المستويات الأساسية والثانوية، هل دراسة المواد العلمية بلغته الأم أم بلغة أجنبية حتى يتأهل للجامعة؟
المسألة ليست مسألة تفضيل، أعتقد أنه لا يمكن توطين العلم في بلد ما إلا بلغة أهل البلد، وإذا كانت لغة البلد لا تصلح للعلم، فالبلد لا يصلح لأي شيء والأفضل ألا يعلم أصلا.
يجب علينا أولا التفريق بين لغة التدريس ولغة البحث العلمي، فالتدريس في كل بلاد العالم يتم باللغة الوطنية، ولم أجد بلدا مهما كان صغيرا إلا ويدرس بلغته، فآيسلندا مثلا وهي جزيرة للصيادين عدد سكانها لا يتجاوز 300 ألف، تدرس باللغة الآيسلندية. والدانمارك بلد سكانه حوالي 5 ملايين نسمة لكنها شهيرة بالفيزياء وفيها معهد يعد من أهم المراكز العلمية في العالم وتدرس بلغتها الدانماركية.
لكن على مستوى البحث العلمي، فاللغة العلمية المتداولة اليوم هي اللغة الإنجليزية، وفي مرحلة ما كانت الألمانية، وعلينا أن ندرك أن هناك من ينشر أبحاثا علمية مهمة في أيامنا هذه بغير اللغة الإنجليزية، فاليابان مثلا بلد قوي جدا بالعلم والتكنولوجيا، وينشرون الأبحاث العلمية بلغتهم.
إذن هذه المسألة يجب أن لا تناقش أصلا، والذي يقول بالتدريس بلغة أجنبية ينبغي أن يجيب على سؤال لماذا؟ وينبغي فتح حوار حقيقي وصريح وأن نسأل المتفرنسين أو أنصار الفرنسة ما هي حججكم؟
حججهم تنطلق من كون الطالب يتلقى تعليمه الأساسي والثانوي بالعربية ثم يصطدم باللغة الأجنبية في الجامعة، ولذلك يقترحون تدريس العلوم باللغة الأجنبية منذ المرحلة الثانوية؟
هذه الحجة تذكرني بفيلم هزلي لشارلي شابلن، كان يجسد فيه شخصية قصير القامة وأمامه بيانو كبير يريد العزف عليه، فكان يجر البيانو إلى المقعد الصغير الذي يجلس عليه عوض أن يجر المقعد، وهذه الصورة تماثل الوضع الذي نتعامل فيه مع هذه القضية.
لنطرح الأسئلة الحقيقية ونقدم إجابات أيضا حقيقية، لماذا ندرس بالفرنسية؟ هل لأنها أقدر أم لأنها أصبحت امتيازا طبقيا، أم لأننا نريد أن نخلق لغة سادة (هي اللغة الفرنسية) ولغة عبيد (هي العربية)؟ مع العلم أن اللغة العربية التي يحاول أن يجعلها البعض لغة عبيد كانت لغة علم لثمانية قرون من أفغانستان إلى الأندلس، وكانت الترجمة من اللغة العربية إلى اللاتينية وباقي لغات العالم نشيطة جدا.
لكن هذا كان في الماضي والواقع الآن مختلف؟
الواقع أن اللغة العربية اليوم في حالة انحطاط كبير جدا، والسؤال هو: هل نريد الخروج من هذا الانحطاط أو أن نغرق فيه أكثر فأكثر؟ عندما نقول ونعتقد أن لغتنا لا تصلح للعلم، فهذا يعني أننا أيضا لا نصلح ولن نفهم هذا العلم، وهذه التمثلات الذاتية موجودة للأسف.
عندما كنت أدرس الجبر الحديث باللغة العربية في جامعة سوريا، أعطيت للطلبة مراجع بالفرنسية والإنجليزية والألمانية، فجاءني مرة أحد الطلاب وقال لي إن ما أعلّمهم أعم وأصعب، مما هو مكتوب في المراجع الإنجليزية، فقلت له غاضبا “وهل هم أبناء آلهة ونحن أبناء الكلاب”.
كان هذا الطالب يستغرب أن أعلّمه شيئا بالعربية أكثر مما يوجد في مرجع إنجليزي، وهذا مظهر من مظاهر الانحطاط، علما أن الانحطاط في ذلك الوقت كان أقل مما هو عليه اليوم بمئة مرة.
البعض يحمل اللغة العربية باعتبارها لغة التدريس مسؤولية فشل التعليم وضعف مستويات التلاميذ، ما رأيكم؟
مشاكل التعليم كبيرة جدا في العالم العربي وفي العالم كله، لأنه لا يتم تخصيص الموارد المادية والبشرية الكافية، ثم بسبب برامج التعليم والمناهج. وأعتقد أن اللغة ليست جزءا من هذه المشكلة، بل إنها أحد الحلول.
بدأت التدريس في الجامعة المغربية عام 1968، وحينها كان التعليم في كل المستويات باللغة الفرنسية، ومع ذلك كنت ألاحظ الصعوبات التي يواجهها طلبة العلوم في الجامعة، وفي أواخر السبعينيات كنت أدرس مادة الفيزياء الإحصائية وجاءني بعض الطلاب يطلبون أن أدرسهم باللغة العربية، فأجبتهم بأن الدروس ستكون صعبة عليهم وأعطيتهم مثالا لأبين لهم ذلك فقلت إن كلمة عشوائي يقابلها aléatoire، فقالوا لي إننا نفهم الكلمة بالعربية أكثر من الفرنسية، رغم أنهم تعلموا المواد العلمية في الثانوي باللغة الفرنسية.
وفي الثمانينيات اتصل بي وزير التربية الوطنية آنذاك عز الدين العراقي لأمثله في ندوة موضوعها الفرنسية لغة العلم والتقنية، ذهبت وقلت إن هذا الكلام غير صحيح لأن الفرنسية لم تكن لغة عالمية للعلم في أي وقت، فقط في مدة وجيزة جدا ما بين 1800 و1820 في عهد لابلاس وأمبير، وبينت أن الفيلم الذي عرضوه للبرهان على نجاعة التدريس بالفرنسية يدل على العكس لأن الأستاذ كان يشرح بالفرنسية والتلاميذ يترجمون كلامه فيما بينهم بلغتهم لاستيعاب ما يقوله قبل الجواب.
أذكر أيضا نقاشا مع أحد طلبتي حول أطروحته، حيث لفتت نظره إلى أن الجملة التي كتبها بالفرنسية ركيكة، فقال لي: يا أستاذ أنا أقرأ بالإنجليزية وأفكر بالعربية وأكتب بالفرنسية.
أسوق هذه الوقائع والأمثلة لأبين الواقع في الجامعة والصعوبات التي يواجهها الطلبة في فهم العلم، والذين لا يعرفون هذا الواقع يمكنهم أن يقولوا ما يريدون.
كثيرون يقولون إن الكلام في هذا الموضوع ينبغي أن يكون للخبراء وليس للسياسيين؟
مستوى النقاش في هذا الموضوع متدنٍ، وهذا مؤسف، أرسل لي أحدهم مقالا منشورا في إحدى الجرائد بالفرنسية لشخص قيل إنه موظف كبير في إحدى الوزارات، مما كتب فيه أننا إذا قلنا للتلميذ معادلة من مجهولين فإنه لن يفهمها بالعربية.
فقلت له أولا هذا السيد لا يعرف ما يقول لأنه لا توجد معادلة بمجهولين، فالمعادلات يجب أن تكون بعدد المجاهيل وإلا فإنها غير محددة، ثانيا الذي وضع المعادلات شخص اسمه الخوارزمي وألف كتابا في الجبر بالعربية أيام المأمون، وهو الذي وضع كلمة الجبر لتنقل كما هي بلفظها العربي إلى اللغة اللاتينية ثم لكل اللغات العالمية، وكان لأعماله فضل في تقدم الرياضيات.
يأسف الإنسان أن موظفا كبيرا يقول هذا الكلام، لكني وجدت في النهاية أن “معادلة بمجهولين” هي تعبير تلفزيوني فرنسي، فيقول الفرنسيون إن ماكرون أمام معادلة بمجهولين أي قضيتين يجب أن يعادل بينهما، وقد أخذ هذا الموظف الكبير هذه الجملة وظنها كلاما علميا ورياضيا وأن القارئ العربي لن يفهمه بالعربية. والحقيقة أنه لن يفهمها لأنها لا علاقة لها بالعلم.
لمصلحة من يتم تغييب آراء الممارسين والخبراء وأصواتهم؟
لا أعلم، يجوز أن القرار اتخذ بغض النظر عن المحتوى. لا ننسى أن هناك قوى ضغط، وفي رأيي ينبغي أن ينصب النقاش حول التالي: يا أنصار فرنسا، سواء كنتم فرنسيين أو مغاربة، اعلموا أنه إذا كان لهذه اللغة الفرنسية مستقبل في هذه البلاد فهو أن تتعامل معاملة الند للند مع لغة البلد، لا أن تحاول تحقيرها أو تهميشها، لأن هذا سيقضي عليها وسيأتي يوم سيرفضها الناس رغم المكتسبات التي حققتها تجاريا واقتصاديا.
يقول المدافعون عن تدريس العلوم باللغة العربية إن المسألة تتعلق بهوية البلد واستقلاله، هل التدريس بلغة أجنبية يمس بالهوية الوطنية بالشكل الذي يخوفون منه؟
من دون أدنى شك، اللغة هي جزء من الثقافة والحضارة والهوية الوطنية، وإذا فصلنا بين لغة أهل البلد ولغة العلم فالعلم سيبقى أجنبيا وغريبا عنا.
الإنسان في أي مجتمع يتكون من أشياء عدة، لغته ومعتقداته وعاداته وتقاليده، وعندما أقول إن لغتي جزء من هويتي فهذا يعني أنها جزء من شخصيتي وتركيبتي الثقافية وطريقة تفكيري، والإنسان من دون هوية لا يساوي شيئا.
ما موقع اللغة الوطنية في أي نهضة حضارية؟ وهل يمكن لأي مجتمع أن ينهض ويتقدم ونظامه التعليمي يعتمد لغة أجنبية؟
ليس لدينا أي مثال في الحاضر أو في الماضي على إمكانية حدوث ذلك. وضعت في مقدمة موسوعة “أسس الفيزياء المعاصرة” جملة لـ”لايبنيز”، وهو رياضي وفيزيائي وفيلسوف معاصر لنيوتن ومؤسس حساب التفاضل، قال فيها “لم يبد علماؤنا رغبة قوية في حماية اللغة الألمانية، بعضهم لأنهم يظنون فعلا أنه لا يمكن لباس الحكمة إلا بلباس لاتيني، والبعض الآخر لأنهم يخشون أن يكتشف العالم جهلهم الذي يخفونه خلف قناع من الكلمات الكبيرة، لقد تركت الأمة بعيدة عن المعرفة”.
هذه الصورة تنطبق على الوضع الذي نعيشه اليوم، وأقول ضع اسم مستعمرك السابق أو الحالي مكان اللاتيني في العبارة السابقة، وستعرف لماذا بقيت الأمة بعيدة عن المعرفة.
لكن ينبغي أن نفرق بين لغتنا الوطنية وحمايتها، وتعلم اللغات الأجنبية للانفتاح على العالم الذي تجاوزنا بسنوات ضوئية؟
هذا صحيح وحتى إذا لم يكن يتجاوزنا، فتعلم لغة أخرى يعني الانفتاح على حضارة وثقافة أخرى وشعب آخر، وتعلم اللغات يحوّلنا من فرد إلى أفراد عديدين، هذا فيما يتعلق بالناحية العامة.
أما ما يتعلق بالبحث العلمي فاللغة المنتشرة الآن والتي تكتب بها أغلب البحوث هي اللغة الإنجليزية كما قلت سابقا، لذلك لا بد للباحث من الإلمام بهذه اللغة وبلغات عالمية أخرى لمتابعة التطورات العلمية.
المحاورة سناء القويطي – الرباط – الجزيرة