عبد الرحمن الراشد إذ يقترح خطة للقضاء على حماس
تمثّل مقالة عبد الرحمن الراشد الموسومة بـ”هذه هي الطريقة للتخلص من حماس”، والمنشورة أخيرا في “الشرق الأوسط”، نموذجا واضحا على موقف لبعض المثقفين العرب، تبدو فيه المشكلة بالنسبة لهم في نتائج الاحتلال الإسرائيلي، كصعود قوى مثل حماس، أكثر منها في الاستعمار الاستيطاني الإحلالي العنصري نفسه، وهو ما يعني من حيثية ما، أنّ هذا الاستعمار قد يكون مقبولا لولا هذه النتائج، والتي قد ترتبط بسياسات بعض قياداته، أكثر من كونها ناجمة عنه في الأصل، وهو ما يمكن أن يُفهم من المقارنة التي أعطى فيها الراشد الأفضلية لأمثال رابين وباراك وأولمرت على نتنياهو، وهي مقارنة يمكن أن نفهم منها كذلك، بلحن القول، أنّ رابين وباراك وأولمرت، أفضل لا من نتنياهو فحسب، بل ومن حماس.
لن يغيرّ من هذا الفهم ما قاله الراشد من كون حماس ليست دخيلة، وإنما هي بنت القضية واللجوء، والتمييز الذي عقده بينها وبين المقاومات العلمانية السابقة عليها، وقوله إنّ التطرف الوطني مقبول، بخلاف التطرّف الديني الذي لا بدّ من استئصاله، وأخيرا لا بدّ من إعطاء الفلسطينيين حقوقهم، وفق رؤية الراشد لماهية هذه الحقوق، فإنّ هذا كلّه، لا يلغي كون المشكلة عنده في حماس ونتنياهو، وربما مشكلة نتنياهو فقط في كونه، بحسب ادعاء الراشد، وفّر الظروف المناسبة لنموّ الحركة، في نوع من التخادم العدائي المتبادل، ومن ثمّ، ومن السطر الأوّل، أظهر شكّه في صدق عزيمة نتنياهو في القضاء على حماس. وختم مقالته بأنّ إقامة دولة فلسطينية هو وحده ما يمنع وجود حركة كحماس، وكأنّه لا مشكلة في الاستعمار الاستيطاني واستمراره وتمدّده ما لم يظهر ما يعدّه الراشد تطرّفا دينيا!
ثمّة ممارسة من الخلط الواقع في الأغلاط المعرفية والمتسم بالمغالطات المتعمّدة، في المقالة المشار إليها، إلا أنّ فكرتها ساذجة وإن كانت خطيرة، بحيث يمكن فكّها إلى عنصرين رئيسين، يشكّلان معا فكرة واحدة، وفي الأثناء، وبين السطر الأوّل والسطر الأخير؛ كلّ تلك الأغلاط والأغاليط.
العنصر الأوّل؛ هو عدّ الراشد حماس حركة تطرّف ديني، تشبه “القاعدة”، متفقا في ذلك مع نتنياهو، حتى لو كانت نتيجة للاحتلال أو متعاظمة بسبب سياسات نتنياهو، مفرّقا بين التطرف الوطني المقبول، والتطرّف الديني الذي يؤيد استئصاله، وهو ما يعني، ولو سلّمنا برؤيته لحماس، أن حماس أكثر شرّا من الاحتلال نفسه.
لا يوضحّ الراشد بالضبط ماهية التطرّف الوطني الذي يقصده، وما الذي يجعله مقبولا بخلاف ما يعدّه تطرفا دينيّا، ولو تنزّلنا لقبول هذا التفريق المبهم الذي يجترحه، فإنّه لا يمكن قبول التفّهم الذي يمنحه الراشد لنتنياهو، للقضاء على “التطرّف الديني الفلسطيني”، أو كما يقول الراشد بالحرف: “يقول نتنياهو في مقاله: “مطلوب استئصال التطرف بين الفلسطينيين”، وهو لم يخطئ إن كان يعني به التطرف الديني؛ لأن التطرف الوطني مقبول”. وحماس عند الراشد “تحمل صفات الجماعات المتطرّفة”، بل هي “تشبه القاعدة، رجال ذوو لحى طويلة ونساء محجَّبات وجماعات تهدّد العالم على وسائط التواصل الاجتماعي”. ولم ينجح الراشد في بيان التأثير الكافي لكون حركة حماس بنت قضية ولجوء، فقد كانت الغلبة لتطابقه مع نتنياهو في تصوّرها حركة متطرّفة، يمكن تفهّم استئصالها.
لا ينبغي الانشغال في تفكيك الأوهام التي يثيرها مدير سابق لقناة العربية ورئيس تحرير سابق للصحيفة ناشرة مقالاته، حول حماس، فينبغي أن يكون معلوما لديه أنّها حركة وطنية فلسطينية تحصر مواجهتها مع “إسرائيل” وداخل فلسطين، ليس فقط بخلاف “القاعدة” بل وحتى بخلاف المقاومات العلمانية السابقة عليها والتي فضلها الراشد على حماس، فلا هي (حماس) انخرطت في صراعات أهلية في دول الجوار، ولا هي نفّذت عمليات خارجية. ليس بالضرورة أن يكون ذلك منقبة لها أو مثلبة لمن سبقها، ولكن هذا هو الواقع، فالحركة لا تهدّد العالم فعليّا، وخطابيّا وعلى وسائط التواصل الاجتماعي لا تهدد أحدا سوى “إسرائيل”، إلا إذا كانت هذه الـ”إسرائيل” هي العالم كلّه، الذي يجد الراشد نفسه فيه، وحماس متمرّدة عليه!
يبقى أنّ الإطار الإسلامي لحماس، منبثق عن طبيعة المجتمع الفلسطيني، ومن غير المعروف إن كان الراشد سوف يتفاجأ لو عاين زيّ النساء الفلسطينيات في تجمّعات حركة فتح وفصائل اليسار (نعم فصائل اليسار)، ليلاحظ انتشار الحجاب بينهنّ، بحيث لا يعود ثمّة معنى لحشره الحجاب في هذا السياق، وأمّا وقد كان مديرا سابقا لقناة العربية فلا بدّ وأنّه عاين أنّ قيادات حماس وعناصرها لا يختلفون في مظهرهم عن بقية الناس في شيء، وأنّ لحاهم أقصر مما توهّم، ولا تزيد عن طول لحى بعض الحكام العرب المحيطين به!
معلوم تماما، أنّ بعض المثقفين العلمانيين العرب مغلولون بالدوغمائية تجاه التجليات النضالية للأطر الإسلامية، حتى لو كانت انبثاقا طبيعيّا عن مجتمعاتها، وحصرت عملها وخطابها في الإطار الوطني، فتطبق عليهم الأوهام، حتى لو عاينوا خلافها. لكن هذا عنصر من القضية، وهو تديّن حماس، ولكن العنصر الأساس، هو أنّ الاستعمار الإسرائيلي لا يمثّل مشكلة جوهرية لذلك البعض من المثقفين العرب، الذين تُعد مقالة الراشد نموذجا واضحا عليهم!
فلا يوجد مسوّغ أخلاقي، أو منطق عقلاني، للمساواة بين تطرف إسرائيلي هو امتداد طبيعي لأصل المشكلة وهو الاستعمار الاستيطاني، و”تطرّف فلسطيني” لو سلّمنا بوجوده هو ردّ فعل على جذر المشكلة، لكن حصر القضية بين تطرّفين يبرّئ الاستعمار الاستيطاني من كونه خطيئة أصلية، ومن كون تطرّفه ليس ناشئا مع نتنياهو ولا هو منحصر بحلفائه المتدينين، ويطمس حقيقة قيامه (أي الاستعمار الاستيطاني) على التطهير العرقي والإزاحة السكانية والإبادة الجماعية.
وبما أنّ المقام لا يتسع لتعريف الراشد بتاريخ رابين وباراك وأولمرت؛ يكفي تذكيره بسياسة تكسير عظام الأطفال التي انتهجها رابين في الانتفاضة الأولى، وبالمجازر التي اقترفها باراك بحق الفلسطينيين العزّل على الحواجز الإسرائيلية أواخر العام 2000، في انتفاضة الأقصى قبل تحوّلها إلى انتفاضة مسلحة ردّا على مجازره، وبالحرب العدوانية المدمّرة التي شنّها أولمرت على لبنان عام 2006، وصارت نموذجا في العقيدة الحربية للجيش الإسرائيلي، ينفّذها بنحو أوسع في قطاع غزّة الآن، إلا إذا كانت جرائم رابين وباراك وأولمرت من التطرّف المقبول كون “إسرائيل” في نظر الراشد وطنا طبيعيا يجيز التطرّف في استباحة الناس ومحوهم من الوجود وتدمير مدنهم فوق رؤوسهم، في مقابل حماس التي هي عنده تطرّف ديني ينبغي استئصاله!
على أيّة حال، ليست تلك هي الأغلاط، أو المغالطات، الوحيدة في مقالته، فثمّة غيرها، كقوله إنّ القضية الفلسطينية لم تخفت إلا في عهد نتنياهو الذي أضعف دور “الدول العربية المعتدلة التي مدّت يدها للسلام”، فإن كان الأمر كما يقول، لماذا طبّعت معه الدول العربية المعتدلة تلك أخيرا؟ ولماذا كان بعضها منخرطا في مفاوضات التطبيع معه إلى حين عملية “طوفان الأقصى”؟! وكيف أضعف نتنياهو دورها وسياساته المعلنة تقوم على إمكان التطبيع مع العالم العربي دون حلّ القضية الفلسطينية؟! فلماذا تجاوبت معه تلك الدول في سياسة طمس القضية الفلسطينية من خلال التطبيع التحالفي وإدارة الظهر للفلسطينيين وكأنّ القضية الفلسطينية لا وجود لها؟! وعلى أيّ شيء أرادت مكافأته بهذا التطبيع؟! إذن، فالتطبيع الذي مارسته الدول التي يمدحها الراشد هو الذي أدّى إلى خفوت القضية الفلسطينية، وتلك الدول، بالضرورة، شريك لنتنياهو في محاولة طمس القضية الفلسطينية. وللمرء أن يعجب كيف أمكن للراشد قول هذا الذي قاله؛ دون أن يشعر بوجود خطأ ما في كلامه!
إذن، فحقّ الشعب الفلسطيني، بحسب ترتيب الراشد، يأتي في ذيل الأهداف، لأنّ هذا الهدف الذيلي مُقدّمة لأهداف أهمّ، وهي منع وجود مثل حماس ولضمان الأمن الوجودي لـ”إسرائيل”، التي يبدو وكأنّ وجودها أكثر أصالة من حقّ الشعب الفلسطيني “المكتسب بقرارات الأمم المتحدة”!
حسنا.. لو قضى نتنياهو على حماس بالقوّة المسلحة، وضمن بذلك أمن “إسرائيل” الوجودي في سياق “التطرّف الوطني المقبول”، فهل تكون الإبادة الجماعية الجارية في غزّة الآن ثمنا يمكن احتماله لأجل تلك الغاية؟! ويصير الهدف الذيلي بإقامة دولة فلسطينية لا حاجة له طالما تحقّقت الغاية النهائية مباشرة بالقوّة المسلّحة؟!