الورطة الروسية في مستنقع سوريا
مرة أخرى يعلق الدب الروسي فوق الشجرة بانتظار من يمد له سلم النزول المشرف.
مرة ثانية، تتجه أنظار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى نظيرة التركي رجب طيب أردوغان ليخلصه من ورطته في إدلب.
ومرة أخرى يفشل بوتين في فرض الحسم العسكري بإدلب، بهدف فرض أمر واقع يرغم بقية الأطراف على قبوله. لكنه في هذه المرة يرتطم بالصخرة التركية الصلبة.
منذ تدخله العسكري المباشر في سورية عام 2015 إلى يومنا هذا، لم يكن في جعبة بوتين سوى سيناريو واحد، هو سيناريو الحسم العسكري، وفق نموذج جروزني (الشيشان)، أي سياسة الأرض المحروقة، التي تعني الانتصار على الخصم عسكريا بأي ثمن، حتى لو أدى ذلك إلى قتل جميع المدنيين، وتسوية المدن والعمران بالأرض.
سلاح الجو الروسي يستهدف المستشفيات والمساجد والمدارس ومخيمات اللاجئين، بنفس الطريقة والتكتيك الذي اتبعه الروس قبيل الهجوم على حلب والغوطة ودرعا، ثم إدلب في أيلول سبتمبر العام الماضي.
قبل أيام قليلة، لم يكن بوتين ليقبل بأقل من القضاء على جميع الإرهابيين في إدلب. وعندما يتحدث الروس عن الإرهاب والإرهابيين فإنهم يقصدون كل من يعارض نظام الأسد، بما في ذلك المعارضة ذات الأجندة الوطنية السورية، لكنه اليوم يعلن هدنة، ويدعي اتفاقا روسياً مع تركيا، تشمل جميع مناطق خفض التصعيد، لكن الطرف التركي سرعان ما نفى علمه بهدنة أو اتفاق.
كما هو معلوم فإن الطرف الضعيف، أو الطرف الخاسر هو من يعلن الهدنة، وليس الطرف الرابح.
الهدنة في القاموس الروسي لا تعني التوقف عن شن الهجمات الجوية. لذلك واصلت قوات الأسد وروسيا قصفها لمناطق ريفي إدلب وحماه بأكثر من 35 غارة جوية، وذلك في اليوم الثاني من الحديث الروسي عن هدنة مؤقتة.
منذ تدخله العسكري المباشر في سورية عام 2015 إلى يومنا هذا، ما فتئ الرئيس الروسي بوتين، يسعى لتجيير / تسويق انتصاراته (!) العسكرية إلى ثمن سياسي استراتيجي.
أنقرة تكذب موسكو
ربما للمرة الأولى منذ التقارب بينهما، وزارة الدفاع التركية تنفي في بيان لها ما أعلنته وزارة الدفاع الروسية، حول قصف طائرات الأخيرة إدلب، بالاعتماد على إحداثيات حصلت عليها من تركيا. وكانت وزارة الدفاع الروسية قد ذكرت أنه بعد الاتفاق مع تركيا على هدنة في شمالي غربي سورية، شنت طائراتها أربع ضربات “على الإرهابيين في إدلب وفق الإحداثيات التي قدمها الجانب التركي”، مضيفة أن القيادة التركية توجهت بطلب إلى مركز المصالحة الروسي بسورية للمساعدة “في توفير الأمن لجنودها وشن ضربات على مواقع الإرهابيين” في إدلب.
الأمر الذي اضطر وزارة الدفاع التركية، لنشر بيان بخصوص ما تداولته بعض وسائل الإعلام عن قصف روسيا مواقع الإرهابيين الذين يهاجمون نقاط المراقبة التركية في مناطق خفض التصعيد بسورية. حيث جاء في البيان، “الخبر الذي تداولته بعض وسائل الإعلام بخصوص قصف القوات الجوية الروسية، بناء على الإحداثيات التي تقدمها تركيا، مواقع الإرهابيين الذين يشنون هجمات على نقاط المراقبة التركية، عار عن الصحة”.
أنقرة تخاطب موسكو وفق المثل الشعبي الذي يقول: “إياك أعني واسمعي يا جارة” .. تقول دمشق وهي تشير إلى موسكو، تقول النظام السوري وهي تقصد القوات الروسية.
ضمن هذا السياق تأتي تصريحات المسؤولين الأتراك، حين شدد أردوغان، على أن استهداف النظام السوري مناطق المدنيين في إدلب بقنابل الفوسفور “جريمة لا تغتفر ولا يمكن السكوت عنها”، مضيفا أن الوضع في إدلب كان سيتطور بشكل مختلف عما هو عليه الآن، لولا الموقف الذي تبنته تركيا حيالها.
الرئيس أردوغان، حذر أيضا من أن تركيا لن تلتزم الصمت في حال استمر الهجوم على نقاط المراقبة في إدلب.
وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو، كان واضحا هو الآخر عندما قال بأن روسيا “لا عذر” لها بعدم وقف الضغط على النظام السوري من أجل وقف ضرباته في شمال غرب سورية. ويأتي ذلك غداة مقتل 28 شخصاً بينهم سبعة مدنيين على الأقل، جراء قصف النظام السوري بمشاركة الطيران الحربي الروسي، استهدف مناطق عدة في محافظة إدلب.
موسكو تتهم أنقرة
مقابل تكذيب أنقرة لموسكو، ردت الأخيرة بتوجيه اتهامات مضادة عبر وكالة سبوتنيك الروسية شبه الرسمية هذه المرة. حيث اتهمت الوكالة تركيا صراحة، بخرق قواعد الاشتباك المتفق عليها، وتزويد فصائل المعارضة السورية في إدلب، بصواريخ مضادة للطيران، استخدم أحدها ضد طائرة سوخوي .حيث عزت سبوتنيك لمراسلها قوله، “إن الدعم التركي للمجموعات المسلحة بدأ يأخذ منحى جديدا في الآونة الأخيرة ويتسم بالتسليح النوعي، مثل صواريخ التاو والكورنيت، بالإضافة إلى مضادات الطائرات المحمولة على الكتف”.
كما هاجمت الوكالة الروسية الدور التركي في سورية، على لسان مراسلها الذي قال “من يظن أن تركيا غير قادرة على التحكم بقرارات المجموعات المسلحة فهو واهم، الأتراك يقدمون الدعم العسكري واللوجستي والحماية للإرهابيين بشكل علني” موجها أصابع الاتهام لتركيا “بتزويد المعارضة السورية بطائرات مسيرة تستهدف قاعدة حميميم ومعظم الآليات التي دمرها الجيش السوري، هي عبارة عن مصفحات تركية دخلت عبر الحدود مع تركيا، وسلمت للمجموعات الإرهابية”.
روسيا على مفترق الطريق حول مصير اتفاق سوتشي
فشلت روسيا في تسويق تدخلها العسكري للأمريكان، حيث كانت تنظر مقابله ثمنا استراتيجيا. جميع محاولات الروس فرض أمر واقع على الأرض السورية، في إدلب وغيرها، تحت ذريعة الحرب على الإرهاب، لم تحظ بضوء أخضر أمريكيا، بل قوبل بالصدود والإعراض والتجاهل.
التدخل العسكري الروسي بلغ مرحلة النهاية، لكن دون احراز مكاسب تذكر من الناحية الاستراتيجية، ولم يبق أمام الروس سوى تركيا لتسويق الورقة السورية، وتحويلها إلى مكاسب سياسية في علاقاتها معها.
من قبيل التذكير، فإن الاتفاق الروسي التركي الذي تم التوصل اليه في مدينة سوتشي الروسية، نص على إقامة منطقة منزوعة السلاح بعمق 15 إلى 20 كيلومتراً على خطوط التماس بين قوات النظام وفصائل المعارضة عند أطراف إدلب وأجزاء من ريف حماة الشمالي وريف حلب الغربي وريف اللاذقية الشمالي.
كان اتفاق سوتشي بالنسبة لموسكو حالة شبه اضطرارية، حيث حرمها الفيتو الأمريكي والتركي من فرصة الحسم العسكري في إدلب، وإعلان النصر في عموم سورية. كما كان ضرورة بالنسبة لتركيا أيضا، عندما سدت واشنطن جميع قنوات التحرك السياسي الخاص بالقضية السورية، تاركة موسكو تصول وتجول في سورية، فلم يكن أمام أنقرة مناص من التعامل مع الأمر الواقع.
لم يكن دخول تركيا على خط مسار أستانا بسبب تطابق الرؤى ووجهات النظر بين أنقرة وموسكو حول طريقة الحل في سورية، ولا لقناعة أنقرة بأن موسكو لديها مفاتيح الحل في سورية، إنما للحد من التغول الروسي، وللحيلولة دون قيام الروس بتصفية المعارضة الوطنية السورية نهائيا، وإرغامها على الاستسلام دون شروط.
الورطة الروسية
تظهر ورطة الروس في سورية في عدة مجالات استراتيجية على قدر كبير من الأهمية.
المجال الأول: فشل روسيا في تسويق تدخلها العسكري في سورية لأمريكا، والحصول على ثمن استراتيجي مقابله.
المجال الثاني: وقوف روسيا عاجزة عن حماية مركزها الرئيسي في قاعدة حميميم. كما أن بقية قواعدها العسكرية في سورية عرضة للهجمات في أي وقت، وهذا يفسر النزق والعنف واستخدام القوة المفرط من طرف الروس.
المجال الثالث: فشل مشروع المصالحات الذي سوق له الروس في سورية، فقد تبين للسوريين خلال فترة قصيرة بأن المصالحات التي فرضها الروس بقوة السلاح، لم تكن سوى مسرحية معدة مسبقا لتسليم الثوار الذين قبلوا بالمصالحة للنظام، الذي جندهم عنوة، وأرغمهم على خوض المعارك ضد رفاقهم بالأمس، بينما الطرف الروسي يتفرج دون التزام بأي من تعهداته كوسيط محايد.
لكن خسارة الروس الكبرى، كانت في دفع أنقرة نحو واشنطن، عندما أصر بوتين على الحسم العسكري، متجاهلا تركيا وقدراتها، ناسيا سياسة التوازنات التي تنتهجها أنقرة، والتي تتيح لها فرصة التعامل والتعاون مع القوى التي تراها الأقرب إلى مصالحها الاستراتيجية.
روسيا على مفترق الطريق في سورية، فهي إما تبقى الحال على ما هو عليه دون حسم عسكري، باستنزاف مقدور عليه، لكن دون مكاسب سياسية تذكر.. أو أن تأتي بجيشها ومقاتليها لتحسم المعركة بنفسها، وهذا يعتبرا تكرارا للسيناريو الأفغاني المرعب.