التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية الناجي الوحيد من اتفاقية أوسلو مع اليهود
لعلَّ “التنسيق الأمني” أبرز ما بقي شاهدا على اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حتى بات أمرا واقعا وشبه وحيد من مجمل الاتفاق الذي أطلق ليكون بادرة سلام تُمكّن الفلسطينيين من إقامة دولتهم، وهو ما لم يتم رغم مرور 3 عقود على الاتفاق.
وبين فلسطيني يسعى لتثبيت حقوقه وينشد دولة لم تقم، وإسرائيلي يتملكه هاجس تنامي قوة الفلسطينيين ديموغرافيا واعتبار أي احتجاج لهم “إرهابا”؛ تظهر إسرائيل “التنسيق الأمني” بوصفه ضرورة تُلزم بها السلطة الفلسطينية لضمان أمنها.
تنسيق لمحاربة المقاومة
وعلى نبذ “الإرهاب” و”أعمال العنف” يقوم التنسيق الأمني عبر تعاون بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية والمخابرات الإسرائيلية برعاية أميركية، ويهدف إلى حماية الإسرائيليين أساسا.
ويلزم اتفاق أوسلو الموقَّع عام 1993، وكذلك اتفاق “طابا” عام 1995، السلطة الفلسطينية بمحاربة المقاومة ونشطائها ضمن ما سماه الاتفاق “الإرهاب”، وجعل السلطة مسؤولة عن اتخاذ الإجراءات المناسبة ضد “الإرهابيين” من خلال التعاون أمنيا مع إسرائيل.
وجاءت اتفاقية أوسلو2، أو ما سمّي اتفاق “طابا”، لتوضّح مهام اللجنة المشتركة للتنسيق الأمني وهوية وعدد أعضائها ومواعيد اجتماعها. ثم تلتها ما عُرفت “بوثيقة تينت” عام 2002، التي جاءت لتجديد التعاون الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية في ذروة الانتفاضة الثانية، وبعدما أيّدت أجهزة أمن السلطة الانتفاضة وانخرطت في مواجهات مسلحة مع القوات الإسرائيلية في بدايتها.
وإذ استباحت إسرائيل كل ما يُعرف بالثوابت الفلسطينية (الأرض والحدود وحق عودة اللاجئين وإقامة الدولة وتقرير المصير)، وجعلتها صعبة المنال بفرض الحقائق على الأرض؛ ربطت المفاوضات وتقدمها والدعم الدولي للسلطة بمدى قدرة الثانية على كبح جماح المقاومة وتقديم المعلومات عن أنشطتها في إطار “التنسيق الأمني”، الذي بات الناجي الوحيد من مخلفات اتفاق أوسلو للسلام.
تنسيق رغم القتل والخسائر
لم يحصد الفلسطينيون منذ أوسلو سوى الخسائر، مقابل مزيد من السيطرة الإسرائيلية والتهويد للأرض والقتل اليومي بحجة “حفظ الأمن”.
الشهداء: قتلت إسرائيل منذ عام 2000 (انطلاق انتفاضة الأقصى) نحو 12 ألف فلسطيني، بعضهم أسرى، وكثيرون تمت تصفيتهم مباشرة في مواجهات أو عمليات اغتيال، أو بالقصف الصاروخي عبر 5 حروب شنتها على قطاع غزة. ووُصف عدوان 2014 بالأكثر دموية، إذ استشهد فيه 2240 فلسطينيا، منهم 2181 في غزة.
الأسرى: ارتفع عدد الأسرى بشكل مضطرد منذ اتفاق أوسلو، ووصل حتى الآن إلى 135 ألف اعتقال، بينهم 4500 أسير يقبعون الآن في سجون الاحتلال المختلفة.
الأرض: بتقسيم اتفاق أوسلو الأراضي الفلسطينية إلى (أ) و(ب) و(ج)، حسب نمط سيطرة كل طرف عليها، لم يبق للفلسطينيين أي تحكم؛ فالاحتلال يسيطر على مناطق (ج) بالكامل والمقدرة بنحو 62% من مساحة الضفة الغربية (مساحة الضفة 5800 كيلومتر مربع)، وما تبقى من مناطق أ وب فالسيادة الأمنية للفلسطينيين فيها مستباحة من إسرائيل يوميا.
الاستيطان: من نحو 105 آلاف مستوطن عام 1993، تصاعد عدد المستوطنين في الضفة الغربية والقدس إلى أكثر من 700 ألف يتوزعون على 145 مستوطنة وأكثر من 170 بؤرة استيطانية.
مؤشر التزام
ورغم هذا الواقع من السيطرة والتحكم الإسرائيلي، يعد الاحتلال التنسيق الأمني “المؤشر الذي يقيس به مدى التزام السلطة بالاتفاقيات”، كما يقول أستاذ العلوم السياسية بالجامعة العربية الأميركية عقل صلاح.
ويلفت صلاح في حديث للجزيرة نت إلى ما ورد في نص اتفاق أوسلو من كلمات مثل التنسيق (بشكل فوري) أو اتخاذ (خطوات فورية) 6 مرات، لاعتقال أو التبليغ عن مقاومين أو نشطاء فلسطينيين تسميهم إسرائيل (إرهابيين).
ويشير صلاح إلى أن الاتفاق ألزم الطرفين بالتنسيق الأمني حتى لو هاجمت إسرائيل مقرات السلطة الأمنية ورئاستها أو أهدافا “مدنية بريئة”، أو خلال تنفيذها عمليات “أمنية” بمناطق خاضعة للسلطة بشكل “يعفي إسرائيل من أية شروط، ويلزم الطرف الفلسطيني بالتنسيق الأمني”.
تعاون وليس تنسيقا
لكن “التنسيق الأمني” تحوَّل -حسب الأكاديمي- بعد سيطرة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) عام 2007 على قطاع غزة إلى “شراكة حقيقية” بين السلطة وإسرائيل؛ “بدافع الانتقام من حماس”. وتطوَّر من التنسيق لاعتقال المطاردين إلى إغلاق المؤسسات والجمعيات، ومراقبة الأرصدة بالبنوك، والتضييق على جميع حركات المقاومة، خاصة حماس.
ويذهب صلاح إلى عدّ الاتفاق ليس تنسيقا لأن “التنسيق كلمة مضللة”، كون ما يجري “تعاونا من طرف واحد فقط”، وهو الفلسطيني الملزَم بتقديم كل المعلومات للاحتلال من دون الحصول على مثلها أو أقل.
وتكشف وثائق مسرّبة حول التنسيق الأمني -كما يشير إليها صلاح- عن مدى “تورط السلطة” في القيام بالدور المنوط بها، بل واجتهادها في ذلك، مذكرا بتصريح لأمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الراحل صائب عريقات قال فيه “لقد استثمرنا وقتًا وجهدًا وحتى قتلنا أبناء شعبنا، لأجل حفظ النظام وحكم القانون، نحن نجتهد للقيام بما علينا”.
كما يجدد الرئيس الفلسطيني محمود عباس كل حين أنه “ملتزم باستمرار التنسيق الأمني مع إسرائيل بمعزل عن تمديد أو نجاح المفاوضات”.
ولم يخدم التنسيق الأمني إلا المستوطنين، ولم يجنِ الفلسطينيون منه أية فائدة سوى فقدان الثقة في السلطة وأجهزتها الأمنية وبحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) المؤيدة لأوسلو، والتي دفعت قبل غيرها فاتورة التنسيق الأمني باغتيال واعتقال كوادر منها.
أوجه التنسيق
ومن أوجه التنسيق الأمني اعتقال أمن السلطة مواطنين فلسطينيين ثم يطلق سراحهم ليعتقلهم الاحتلال بالتهمة نفسها، وهو ما بات يعرف بسياسة “الباب الدوار”.
ومن مظاهره أيضا تبليغ جيش الاحتلال عبر مخابراته الأمن الفلسطيني بنيته اقتحام مناطق بالضفة، فيتخذ الثاني إجراءاته بعدم إعاقته، وكذلك حماية المستوطنين الداخلين “خطأ” لمناطق السلطة و”العملاء” المتعاونين مع إسرائيل.
ورغم ذلك، تتعمد إسرائيل استخدام التنسيق الأمني بوصفه أداةً لإذلال الفلسطينيين وتحطيم إرادتهم، بتأكيدها دوما أن أي اغتيال او اعتقال تقوم به يجري بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية.
ويختم صلاح أن “التنسيق الأمني” وبعد فشل الاتفاقيات بكل بنودها مع إسرائيل، ظل وحده قيد التطبيق لأنه لا وجود لإسرائيل من دون أمن.
ويتفق أمين عام حركة “المبادرة الوطنية” مصطفى البرغوثي مع أن “التنسيق الأمني” يكاد فعلا أن يكون “الناجي الوحيد” بعد تحلل إسرائيل من أوسلو والاتفاقيات الأخرى.
وظيفة أمنية خدماتية
ويقول البرغوثي للجزيرة نت إن الاحتلال لم يعد يرَ في السلطة إلا وظيفة أمنية وخدماتية، وتعلن حكومته أنه لا مكان لدولة فلسطينية مستقلة، وأن أقصى ما يمكن للفلسطينيين تحقيقه هو “حكم ذاتي مسؤول عن الهموم المعيشية للناس ويوفر التنسيق الأمني لإسرائيل”.
وللتحلل من هذا الاتفاق، ما على السلطة الفلسطينية فعله الآن هو تنفيذ قرارات المجلس المركزي لمنظمة التحرير عام 2015، الداعية لوقف التنسيق الأمني، وهي إذا أرادت تستطيع، “لكن هل تملك الإرادة؟ كما يتساءل البرغوثي.
ويجيب بنفسه قائلا إن خيارات السلطة واسعة، لكنها في الوقت نفسه محدودة إذا بقيت بالإستراتيجية نفسها التي خسرت بسببها من قبل، وهي المراهنة على التدخل الأميركي وعلى المفاوضات للوصول لحل مع إسرائيل في ظل اختلال ميزان القوى، ولكن خياراتها ستكون واسعة وبلا حدود إذا قررت تبني نهج وطني مقاوم للاحتلال.
وحول تجفيف التنسيق الأمني منابع المقاومة، يؤكد البرغوثي أن مبدأ التنسيق الأمني مرفوض أساسا لأنه يطلب من الشعب المحتل أن يوفر للمحتلين الأمن وهو عاجز عن حماية نفسه من اعتداءات المحتل نفسه وجنوده؛ “لذلك العقيدة نفسها خاطئة ويجب أن تنتهي”.