جدل في المغرب حول اقتسام الثروة بين الزوجين بعد الطلاق
عادت النقاشات مرة أخرى إلى مدونة الأسرة في المغرب، لكن هذه المرة، لم يعد النقاش فقط حول قضية مساواة الجنسين في الإرث، بل امتد النقاش إلى قضية أخرى تتعلق باقتسام الثروة بين الزوجين، والدعوة إلى تعديل الفصل 49 من المدونة، وإلزام الشريكين بعقد إضافي إلى عقد الزواج يؤطر التعامل المالي بينهما، ويفرض ضرورة اقتسام الثروة بينهما بعد الطلاق، بحجة أن المرأة قد ساهمت في تنمية ثروة الرجل، وأنه ليس من العدل أن تخرج من الطلاق خالية الوفاض، ويخرج الزوج، وقد حصن جميع أصوله، وضاعف ثروته، التي شاركته المرأة في بنائها وتنميتها، دون أن يكون لها أي نصيب منها.
المدونة تترك الاختيار للزوجين
قبل عقدين من الزمن، وتحديدا مع الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية التي أطلقها الوزير سعد السعدي في حكومة عبد الرحمان اليوسفي، تمت المطالبة بتغيير مقتضيات كثيرة من مدونة الأسرة، كان من بينها طرح موضوع اقتسام الثروة بين الزوجين عند الطلاق. ولأن مدونة الأسرة، تؤطر الأحوال الشخصية، ولأن الدولة محكومة بشرعية دينية، يمليها نظام إمارة المؤمنين، فقد كان من الضروري، أن يتم البحث عن اجتهاد في التراث الفقهي الإسلامي أو حتى المغربي، حتى يجعل هذا المطلب، يأخذ شرعية التداول، وتنظر فيه اللجنة التي كلفت بإعداد مدونة الأسرة، والتي كانت تضم العلماء بصفتهم المؤتمنين على ألا تتضمن مدونة الأسرة ما يتناقض مع الشريعة أو مقاصدها العامة.
استند المطالبون بضرورة إحداث هذا التغيير بوضعية المرأة الهشة، وأنها تصير المتضرر الأول من الطلاق، وأن الواقع يفرض رجولية الرجل، وأن المرأة ذات الذمة المالية المستقلة، تصرف مالها في تدبير معاش البيت وتأثيثه، وربما يقتني الرجل بمالها أصولا من عقارات وما جاورها، ويضعها في اسمه، وعند الطلاق يحصن الرجل حقوقه المالية، ولا يضمن أي شيء للمرأة، مما يجعلها تتحمل كلفة الطلاق النفسية والاجتماعية، وتتحمل معه المعاناة بسبب عدم تحصين حقوقها المالية، مع أنها قضت معظم حياتها في ظل الزوجية، تخدم البيت وترعاه وتشارك في تمويل البيت والمعاش، وتوفر الظروف للزوج لكي ينمي ثروته ويحقق أهدافه المهنية والعملية.
وكان المستند الفقهي الذي لجأت إليه الهيئات، هو ما يعرف في عرف قبائل غمارة في شمال المغرب (منطقة جبالا)، بـ”الكد والسعاية”، إذ أفتى فقهاء هذه المنطقة، بأن تحصل المرأة على جزء من الغلال التي يحصلها الرجل من أرضه بعد الطلاق، بحكم أنها كانت تشارك معه في الحقل، وكانت في حكم الأجير الذي لا يتقاضى أجرا، بسبب الزوجية والعيش تحت سقف واحد.
ومع أن مناط الفتوى عند فقهاء جبالا (غمارة) كان يدور حول المشاركة في الحقل، أي في العمل الزراعي (إجارة من غير أجر) إلا أن المطالبين باقتسام الثروة بين الرجل والمرأة، لم يكتفوا في استلهامهم لهذا التراث بإدراج قضية مشاركة المرأة بذمتها المالية في تمويل البيت وتدبير معاشه، ومشاركتها في تنمية الثروة المشتركة، بل قاسوا العمل المنزلي على العمل في الحقل، واعتبروا ذلك نوعا من الإجارة التي لا يؤدي الرجل أجرها، فاستحقت المرأة عند الطلاق جزءا من ثروته لقاء الأجر الذي لم تتلقّه ساعة قيامها بالعمل المنزلي أو أي عمل يدخل في إطار تنمية ثروة الرجل.
الفقهاء المغاربة يتفاعلون
ولأن الأمر يتعلق بفتوى صدرت من أهل العلم الشرعي (فقهاء غمارة)، فقد تطلب ذلك من الفقهاء الذين شاركوا في اللجنة التي كلفت بإعداد مدونة الأسرة، ومن بينهم الشيخ مصطفى بن حمزة التفاعل مع هذه الفتوى الواردة في التراث الفقهي المغربي، والنظر في حيثياتها.
جواب الشيخ مصطفى بن حمزة في تفاعله مع موضوع الكد والسعاية، ركز على أربع نقاط أساسية، أولها، طبيعة الفتوى، وثانيها، مستندها، وثالثها، الموقف من قياس العمل المنزلي عليها، ومخاطر العمل بها في ظل التركيبة السوسيولوجية للمجتمع المغربي.
في النقطة الأولى، أكد الشيخ مصطفى بن حمزة، أن هذه الفتوى، هي تعبير عن عرف جزئي، تم العمل به في منطقة محدودة في المغرب، هي منطقة غمارة، ولم تعمم في المغرب، وحتى منطقة سوس التي عملت بها في وقت من الأوقات، لم تلتزم بها، ولم يعد معمولا بها بعد ذلك. وما كان عرفا جزئيا، فحكمه ألا يعمم، إذ لو حصلت المصلحة به، لما تأخرت المناطق الأخرى عن الأخذ به.
في ظل مجتمع، تتوسع فيه ظاهرة العنوسة، وتتضاءل فيه نسب الإقبال على الزواج، وتتوسع فيه البطالة، وفي مناطق يصبح فيها الزواج أداة أساسية من إدارة التوازن الاقتصادي والاجتماعي (الأرياف)، يصير تعليقه بأية شروط تتعلق بتدبير التعامل المالي بين الزوجين، واحتساب العمل المنزلي جزءا من المساهمة في تنمية الثروة، تبرر الشراكة في أصول الرجل، إيذانا بتهديد جزء مهم من الاستقرار الأسري.
أما النقطة الثانية، فيرى الشيخ بن حمزة، أن الفتوى تخص حالة بعينها، وهي المشاركة في الحقل، وهي عند فقهاء أهل هذه المنطقة إجارة، لم تؤد أجرتها، وعليه بنوا موقفهم، فالمرأة تأخذ جزءا من ثروة الرجل (الغلال لا الأصول) لقاء الإجارة غير المدفوعة، وأن ذلك لا يقدر بقدره، وألا وجه لأن تأخذ المرأة نصف الثروة كما يقول المطالبون، لأن المرأة لم تكن وحدها مشاركة في الحقل، وإنما شاركها أيضا أبناؤها، فلو تعين لها النصف، لتعين أيضا لأبنائها، عملا بمبدأ التسوية.
وأما النقطة الثالثة، فتتعلق بقياس العمل المنزلي على العمل في الحقل، وهو ما لم يقل به فقهاء غمارة، إذ لم يعتبروه ملزما للزوج في شيء من ثروته، لا أصولا ولا غلالا. وأن حاصل الأمر في ذلك أن بعض الفقهاء، لا سيما فقهاء الظاهر، استندوا إلى أن عمل المرأة في بيت زوجها ليس واجبا عليها، وأنها إن فعلت ذلك تفعله من باب الفضل، فاعتبر العمل المنزلي، إن لم يتم من باب الفضل، إجارة غير مدفوعة الأجرة. ليتم إلحاق العمل المنزلي بالحقل الزراعي.
وأما النقطة الرابعة، فتتعلق، بمخاطر إلزام الزوجين بإبرام عقد إضافي ينص على اقتسام الرجل لثروته مع المرأة في حال الطلاق، بحجة أنها كانت تشاركه في عملية تنميتها، فيرى مصطفى بن حمزة أن هذا الإلزام، يمكن أن يؤول إلى هدم الاستقرار الأسري، وأن الأوفق في ذلك، أن يترك الأمر على الاختيار، فيجوز للزوجين أن يبرما عقدا إضافيا لعقد الزواج ينص على تدبير التعامل المالي بينهما، ويجوز لهما أن لا يفعلا ذلك. فكان اختيار المدونة ما انتهى إليه نظر الفقهاء في هذه القضية، وأن تجعل على الاختيار لا الإلزام.
اقتسام الثروة بين النظر الفقهي والاعتبارات السوسيولوجية:
على أن الفقهاء الذين شاركوا في لجنة إعداد المدونة، نصوا في القانون في المادة التي يثور الجدل بشأنها (الفصل 49 من المدونة) على مبدأ استقلال الذمة المالية لكل من المرأة والرجل، وعلى مبدأ اللجوء إلى قواعد الإثبات في حالة الخلاف حول الثروة التي تم تنميتها بعد الزوجية.
تقدم هذه المعطيات جزءا هاما من حيثيات النقاش الذي دار حول هذه القضية داخل اللجنة المكلفة بإعداد المدونة، وتبين بأن النظر الفقهي لم يكن بعيدا عن تقدير رؤيته للمجتمع، والمخاطر التي يمكن أن تلحقه من جراء التنصيص على الإلزام في مدونة الأسرة وليس الاختيار، وأن المطالبين باقتسام الثروة، أقروا بخصوصية المجتمع المغربي، بل وخصوصية النظام السياسي ومقتضيات إمارة المؤمنين فيه، وما تفرضه من وجوب أن تكون مدونة الأسرة منطلقة من المرجعية الإسلامية مستلهمة لمقاصد الشريعة وقواعدها العامة، وأنه لهذا الغرض، تم التنقيب في التراث الفقهي على مستند يمكن من خلاله تبرير هذا المطلب، وتقويته بالحجج الفقهية (فتوى فقهاء غمارة)، بعد تبريره بمعطيات الواقع المغربي، ووضعية المرأة الهشة فيه (المعطيات السوسيولوجية).
هذا الانفتاح المتبادل من جهة الفقهاء على معطيات المجتمع، ومن جهة الجمعيات العلمانية على التراث الفقهي، هو الذي سمح بأن تخرج المدونة بتلك الصيغة الوسط، التي لجئ فيها إلى الاختيار بدل الإلزام، وهي التي أضحت اليوم، محط نقاش ومساءلة في ضوء النتائج التي أسفر عنها تطبيق المدونة.
الأرقام غير الرسمية التي تتداول عن نسبة الذين قاموا بشكل اختياري بإبرام عقد إضافي إلى جانب عقد الزواج يؤطر هذه القضية، تتحدث عن نسبة جد ضئيلة، وهو المعطى الذي تمت قراءته، بشكل مختلف.
فالذين، يرفعون مطلب اقتسام الثروة بين الزوجين، اعتبروا أن السبب يعود إلى الصيغة الاختيارية، وأنها تسببت في زهد الشريكين فيها، وأنها فرضت الأمر الواقع، أي أبدت سلطة الرجل، وحكمت على ذلك بإقبار مطلب الاقتسام وتعويمه، وطي هذا الملف إلى الأبد، وبقاء وضعية الهشاشة التي تتمتع بها المرأة، وضياع حقوقها، بسبب هيمنة الثقافة الذكورية، التي تحصن ثورة الرجل، ولا تريد أن تنتزع منها حق المرأة التي كانت شريكة في صنع هذه الثروة أو على الأقل في تنميتها.
أما الذين يرفضون صيغة الإلزام، فيعتبرون هذه النسبة جد دالة، إذ تعبر عن رفض المغاربة بشكل مطلق أن يتم إلحاق أي عقد إضافي يخص التدبير المالي بين الزوجين بجانب عقد الزواج، وأن الزواج مؤسسة تقوم على المودة والرحمة والتعاون، لا شركة تقوم على منطق تقاسم الأعمال وتقييمها، واقتسام الثروة بناء على ذلك عند الخلاف، وأن هذه العلاقة العاطفية التي تؤطر فضاء الأسرة، هي التي تسمح بتربية الأبناء، وتسمح بتحصين الأسرة، وأن أي اشتراط لعقد آخر ينظم التعامل المالي بين الزوجين، سيحرف الزواج عن مقاصده، ويحوله إلى شركة مالية، وربما يصرف الكثير من الرجال عن الزواج أصلا، وأن العمل المنزلي للمرأة، هو عمل طوعي من جانبها، لا ترضى المرأة نفسها أن تأخذ بدلا عنه، وأن المحاكم التي تقدم إحصاءات عن الإهمال الأسري، لا تقدم إحصاءات مقابلة، تتعلق بنسب الذين يهبون عقارات وأصولا إلى أزواجهم وأبنائهم لتحصين مستقبلهم لقاء المودة والرحمة التي أثمرها الزواج، وأنتجت مثل هذه الأعمال التطاوعية بين الزوجين.
من الناحية القانونية، فقد نص الفصل 49 على الاستقلالية المالية للزوجين، ونصت المدونة على أن اختصاص الزوج بالنفقة على البيت دون المرأة، ونص الفصل الذي أثار الجدل على حق المرأة في الاستعانة بقواعد الإثبات العامة لتحصين ثروتها المالية، ومنع الرجل من الاستفراد بها دونها.
يبقى السؤال العريض في هذا الموضوع، هو السبب الذي يدفع المرأة ذات الاستقلال المالي، لأن تساهم في تنمية الثروة داخل البيت، دون أن تحصن حقها بما يتيحه القانون من وسائل الإثبات، وما الذي يمنع المرأة من ذلك، مع أن القانون يحمي حقها المالي كاملا عبر هذه القواعد العامة في الإثبات؟
يمكن أن تحدث صدمة مجتمعية خطيرة تتعلق بتدني نسبة الخصوبة، وارتفاع مهول في نسب طلاق الشقاق، ما دام أن القانون يمكن أن يضمن للمرأة حقا في الأصول المالية لزوجها باحتساب العمل المنزلي حصة في ثروة الرجل وأصوله المالية.
الواقع، أن القضية تتجاوز المقاربة القانونية، وتتعلق بالمزاج الثقافي المجتمعي، والتمايزات الصارخة التي يمكن أن تكون بين المجتمعات العربية الإسلامية والمجتمعات الغربية، على هذا المستوى (الثقافي). فعزوف المغاربة مثلا عن إبرام عقد إضافي إلى جانب عقد الزواج، ينطلق في الأصل من مزاج ثقافي خاص، وتمثل مختلف لمؤسسة الزواج وأدوار الأسرة، وأنها مؤسسة قائمة على المودة والرحمة والتعاون والتطاوع لبناء عيش مشترك، وأن أي حساسية مالية، قد تفسد منطلقات الزواج التي تشكل الأساس العاطفي لبناء أسرة قوية.
لا نستطيع أن نكون نظرة علمية عن الحال الذي يمكن أن تكون عليه الأرقام، إذا ما اتجهت مدونة الأسرة إلى التنصيص على صيغة الإلزام بدل الاختيار، لكن، الرقم الهزيل الذي سجل لصالح التزام الصيغة الاختيارية، واللجوء إلى تكثيف استعمال صيغة الاستثناء في النص الذي يتعلق بتزويج القاصرات، يظهر بأن القضية تتجاوز ثنائية المحافظ والحداثي، وتطرح مشكلة الثقافي والمجتمعي، وهل البنية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، توفر الشروط بنجاح مثل هذه المطالب، أن الشرط السابق عن تقديم هذه المطالب هو إحداث تحول ثقافي كبير يفترض أن تكون الشروط الاقتصادية والاجتماعية مساعدة على إنجازه.
ففي ظل مجتمع، تتوسع فيه ظاهرة العنوسة، وتتضاءل فيه نسب الإقبال على الزواج، وتتوسع فيه البطالة، وفي مناطق يصبح فيها الزواج أداة أساسية من إدارة التوازن الاقتصادي والاجتماعي (الأرياف)، يصير تعليقه بأية شروط تتعلق بتدبير التعامل المالي بين الزوجين، واحتساب العمل المنزلي جزءا من المساهمة في تنمية الثروة، تبرر الشراكة في أصول الرجل، إيذانا بتهديد جزء مهم من الاستقرار الأسري.
ليست لدنيا معطيات إحصائية تقديرية حول نسبة الزيجات التي ستتعطل في حال تم إقرار الصيغة الإجبارية، وليست لدينا أيضا أي مؤشرات توقعية للحال الذي ستكون عليه نسب الطلاق، لو تم التزام الصيغة الإجبارية في اقتسام الثروة، لكن الإحصائيات المتعلقة بتزايد نسب طلاق الشقاق من جهة، وتراجع نسب طلاق الرجل (بسبب عدم القدرة على الوفاء بالمستحقات المالية)، يمكن أن تعطي صورة واضحة عن المشهد الذي يمكن توقعه في حال فرض الصيغة الإلزامية، إذ يمكن أن تحدث صدمة مجتمعية خطيرة تتعلق بتدني نسبة الخصوبة، وارتفاع مهول في نسب طلاق الشقاق، ما دام أن القانون يمكن أن يضمن للمرأة حقا في الأصول المالية لزوجها باحتساب العمل المنزلي حصة في ثروة الرجل وأصوله المالية.
ولذلك، التقدير أن الاشتغال في هذه القضية من زاوية القانون، سيكون بدون نتيجة، وأن الأمر سيبقى على حاله، وأن أي سلطة كيفما كانت، لا يمكن أن تضحي باستقرارها المجتمعي في سبيل رسم صورة حداثية عنها وعن موقع المرأة في تصورها، وأن الزاوية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، هي المدخل الأساسي، للتحقيق في فعالية هذه الصيغة أو تلك، وأنه دون حدوث تحولات عميقة في بنية المجتمع المغربي، ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا، بالشكل الذي تصبح فيه غالبية الأسر في المجتمع، مبنية بإرادة الزوجين، ذوي الذمة المالية المستقلة، ويتوسع حجم مشاركة المرأة في المجتمع ومؤسساته، وتحقق المرأة بفعاليتها الخاصة الندية المجتمعية للرجل، فإنه لا يمكن الحديث عن فعالية البوابة القانونية، ولو تمثل أصحابها أفضل الحجج وأقواها.