تونس تعيش وضعاً غير مسبوق منذ استقلالها سنة 1956
لم يعد المتابعون للشأن التونسي، سواء كانوا تونسيين أو أجانب، في حاجة إلى التفكير طويلا قبل التأكد من أن تونس تعيش وضعا غير مسبوق لم تشهده منذ استقلالها في 20 آذار/مارس 1956. ولا يعني ذلك ان دولة الاستقلال – أو الدولة الوطنية كما يسميها أنصارها – لم تشهد قبل 14 كانون الثاني/يناير 2011 أزمات كبرى. فقد عاشت هذه الدولة أزمات دورية بمعدل أزمة في كل عقد من الزمن تقريبا، وكان بعضها قويا، ولكنها تمكنت من تجاوز أزماتها التي تركت شروخا في بنيتها وفي علاقتها بالمجتمع أدت في نهاية الأمر إلى عجزها عن الصمود في وجه «الربيع العربي» الذي كان في جوهره عملية التقاء بين قوى داخلية وأخرى خارجية استغلت كل نقاط ضعف نظام الرئيس زين العابدين بن علي ونجحت بفضل هذا الاستغلال في نقل تونس إلى مرحلة جديدة كان من المفترض أن يكون الإصلاح الشامل محركها الأساسي.
ولكن عوض أن تتحرك عجلة الإصلاح فإن ما حصل هو العكس، حتى أن بعض الملاحظين والناشطين السياسيين اعتبر ان العجز عن الإصلاح وتعميق النقائص والسلبيات ليس أمرا عفويا أو وليد نقص الخبرة، بل هو أمر مخطط له منذ أن أطلقت بعض دوائر القرار في واشنطن مشروع «الفوضى الخلاقة» الذي انطلق فعليا باحتلال العراق سنة 2003. ولا نحتاج في هذا الصدد إلى استحضار الكثير من الأدلة التي يسوقها هؤلاء، بل يمكن الاكتفاء هنا بما يشيرون إليه من أن بعض الحركات في العالمين العربي والإسلامي، كانت دائما وفي كل مرة تصل فيها إلى السلطة أداة تخريب للدولة والمجتمع لأن حصيلتها سلبية في كل التجارب، وأيضا بالزيارة التي قامت بها ناشطة حقوقية وسياسية تونسية – لعبت دورا هاما بعد 14 كانون الثاني/يناير 2011 في ما يسمى مسار العدالة الانتقالية وتلاعبت بهذا المسار ولكنها وجدت حماية مريبة من أطراف سياسية – إلى العراق المحتل مع بول بريمر سنة 2004 ولم تتورع حينها عن دعوته لما اسمته تحرير تونس.
قد يبدو ما ذُكر سابقا استطرادا طويلا ولكنه بدا ضروريا في محاولة لتفكيك وفهم الأزمة الشاملة والهيكلية التي تعيشها تونس حاليا في ظل التقاء وتساوق عناصر الأزمة السابقة التي أدت إلى قبول شعبي واسع لمنعرج 14 كانون الثاني/يناير 2011 باعتباره «ثورة غير مسبوقة» مع قبول غير مسبوق أيضا للإجراءات التي اتخذها الرئيس قيس سعيد. كان التونسيون يتطلعون ليلة الإعلان عن الإجراءات إلى إصلاح سريع لأوضاع أرهقت حياتهم لأن عشرية «الثورة « كانت في جوهرها عشرية التفريط في مكاسب دولة الاستقلال – حتى وإن كانت محدودة ولم تعد قادرة على الاستجابة لتحديات المرحلة – وإضافة خيبات سياسية واقتصادية وأخلاقية أخرى وأشد خطورة خاصة في تبعاتها النفسية لأنها كرست القطيعة بين الرأي العام والطبقة السياسية وخلقت حالة من الإحباط المعمم الذي عمق الشعور باللامبالاة وأعاد إلى السطح النزعات الأنانية والقطاعية والمناطقية التي تمثل أرضية خصبة للعنف والاحتقان.
وبقدر ما استفاد قيس سعيد من نتاقضات واخفاقات الطبقة السياسية التي أمسكت بزمام الأمور منذ رحيل الرئيس زين العابدين بن علي، فإنه خلق منذ دخوله قصر قرطاج موفى سنة 2019 تناقضاته التي قد تكلفه غاليا. ومن أكبر نقاط ضعف قيس سعيد أنه لا يحسن الحفاظ على الحلفاء لأنه مسكون بهاجس الرغبة في التمايز التي جعلته يعتبر نفسه «من كوكب آخر» ويميل ضمنيا إلى أن يرى أن تاريخ تونس الحديث يبدأ معه وهو ما يتجلى في عدم الإشارة إلى من سبقوه إلا بشكل سلبي. ومن هذه الزاوية فإن الشخصية التي «راهن» عليها التونسيون لتخليصهم من الأزمة تحولت إلى أحد مظاهر الأزمة خاصة وأن الحكم الفردي لم يعد أمرا يقبله المزاج التونسي مهما كانت الانتقادات التي وقع توجيهها إلى تجربة الانتقال الديمقراطي الفاشلة والمخيبة للآمال.
ولا يمكن فهم آفاق الأزمة التونسية من دون الإشارة إلى أن الرئيس قيس سعيد يمتلك أوراقا مهمة تمكنه من ان يواصل «القطيعة» مع النخب السياسية. ذلك انه يمسك بأجهزة السلطة وهو ما جعله، من خلال التخلص من مؤسسات الجمهورية الثانية وتعيين الموالين وتغيير التشريعات، يقوم بعملية «قضم» بطيئة ولكنها ناجحة لحد الآن لمؤسسات الدولة. ولكن اللعب على التناقضات المجتمعية العميقة يمكن ان يتحول إلى سلاح ذي حدين خاصة إذا كان المنجز الاقتصادي والاجتماعي ضعيفا. ولا يبدو وضع المعارضة أفضل من وضع قيس سعيد لانها تعيش، بشكل عام، في حالة قطيعة مع الرأي العام ولان انقساماتها الداخلية قد انهكتها هذا من دون ان ننسى خلافاتها المرضية التي تحول دونها والالتقاء على برنامج حتى وان كان مرحليا. ولا شك ان النزعة الاحتجاجية والحركية للمعارضة هي التي تجعلها عاجزة عن ان تقدم نموذجا بديلا. ومن ملامح تعمق الأزمة التونسية ان «تحالف الضرورة» أو «التحالف المدفوع من الخارج» والذي تشكل من تيارات وشخصيات تمثل النظام القديم والإسلام السياسي والمركزية النقابية وبعض القوى اليسارية قد تفكك وأصبح من المستحيل تقريبا رتق فتوقه في حين انه يتأكد انه يصعب لحد الآن على الأقل تشكيل كتلة تاريخية تمثل «تحالفا من أجل تونس» في ظل تواصل أمراض الزعامة والإقصاء التي تعاني منها المعارضة التونسية.
كما أن الحرب الروسية الأوكرانية لها تداعيات مباشرة على الطاقة والغذاء لان تونس تستورد كميات هامة من النفط والغاز والقمح وهو ما يعني ان الأزمة ستزداد تعمقا. وللعامل الخارجي أهميته في توجيه الوضع التونسي، فأهم القوى الدولية الفاعلة في الأزمة التونسية تريد مزيد «ابتزاز» تونس الغارقة في المديونية. ولا شك ان تخلي أهم الفاعلين في الأزمة التونسية عن التوجه نحو الحوار وتوجههم فعليا نحو «استبعاد الآخر» يمثل عامل تعميق للأزمة.