تأخر الرواتب الموظفين وإعادة جدولة الديون.. منعطف جديد للأزمة في تونس
بات التونسيون يستشعرون وطأة الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعيشها البلاد منذ أشهر، وانعكاسها على حياتهم اليومية، وقد تعمقت في الأيام القليلة الماضية بتأخر رواتب الموظفين بالقطاع الحكومي في سابقة لم تعرفها البلاد منذ سنوات.
ويتقاسم المربي (مُعلم) خالد التومي المخاوف مع زملائه في قطاع التدريس من مغبّة تكرار تأخر صرف أجورهم، في ظل التزاماته المالية العائلية ومصاريف أبنائه الثلاثة فضلا عن أقساط قرض بنكي.
ويؤكد التومي أن راتبه الحكومي الذي قد يحسده عليه آخرون بالكاد بات كافيا لإعالة أسرته، في ظل غلاء المعيشة والارتفاع الجنوني لأسعار المواد الغذائية، والكهرباء والغاز والبنزين، في وقت عجزت فيه الدولة عن كبح جماح المحتكرين والمضاربين في السوق.
معاناة هذا المربي لم تتوقف على تأخر صرف راتبه، كما يقول، بل على تكبده الانتظار ساعات طويلة في طابور ممتد أمام المخابز في ظل أزمة طحين تعيشها محافظات عديدة بالبلاد، فضلا عن رحلة البحث المتواصلة عن قوارير الغاز والزيت وكراتين البيض التي باتت كلها كنزا ثمينا لكل من يظفر بها.
تأخر الرواتب
وأشعل تأخر صرف رواتب موظفي قطاع التعليم موجة غضب في صفوف المعلمين والأساتذة الجامعيين، وعبّرت الجامعة العامة للتعليم العالي عن استنكارها تأخر صرف رواتب موظفيها، وتأثير ذلك على حياتهم المعيشية، والتزاماتهم مع البنوك، محمّلة الحكومة عواقب التأخر.
ويرى كثيرون أن الوعود التي أطلقها الرئيس التونسي بمحاربة الفساد وتتبع المضاربين و”من ينكّلون بقوت الشعب” بعد توليه جميع السلطات في 25 يوليو/تموز الماضي ليس لها أي أثر في حياتهم اليومية.
وكشف المعهد التونسي للإحصاء (جهة حكومية) عن ارتفاع نسب التضخم إلى 6.6% مع نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي، بعد أن كانت في حدود 4.9% في الشهر ذاته من سنة 2020، في حين بلغت نسبة البطالة 18.4%.
ارتفاع معدلات التضخم
وأرجع المعهد ارتفاع معدلات التضخم إلى ارتفاع أسعار مواد أساسية كالمواد الغذائية لتبلغ معدل 7.6% في ديسمبر/كانون الأول 2021 بعد أن كانت في حدود 4.9% في شهر أبريل/نيسان من السنة نفسها، كما ارتفع معدل أسعار السكن والطاقة المنزلية من 4.9% إلى 5.1% من المدة ذاتها.
وأثار تأكيد بعض القيادات السياسية والناشطين استيلاء الحكومة على مدخرات التونسيين في مؤسسة البريد لتسديد أجور موظفي القطاع الحكومي حالة من الهلع في صفوف المواطنين، لينشر البريد التونسي بلاغا توضيحيا.
وأوضح البريد التونسي أن تمويله لميزانية الدولة من أجل خلاص أجور الموظفين، وهو إجراء معمول به منذ عشرات السنين، مشددا في المقابل على أن هذه المبالغ لا علاقة لها بالأموال المودعة في حسابات الادخار البريدي التي تبقى على ذمة الحرفاء وتتمتع بضمان الدولة.
الاستيلاء على مدخرات المواطنين
وفي هذا الخصوص أكد الكاتب العام في نقابة البريد، الحبيب الميزوري، أن البريد قام بضخ 700 مليون دينار (250 مليون دولار) من مدخراته لفائدة خزينة الدولة من أجل خلاص أجور الموظفين لشهر يناير/كانون الثاني الجاري.
وشدد على أنه على عكس ما يروّجه البعض من استيلاء الحكومة على مدخرات المواطنين بالبريد، فإن هذه المبالغ تبقى على ذمتهم إذا أرادوا سحبها في أي وقت.
وأكد الميزوري أن هذه العملية سبق اللجوء إليها في أزمات مالية قديمة تعرضت لها البلاد في الثمانينيات والتسعينيات، وأنها ليست المرة الأولى التي تلجأ فيها الدولة إلى مؤسسات عمومية لضخ موارد لفائدة الخزينة العامة.
لا مساس بالأجور
وكانت وزيرة المالية سهام بوغديري قد أكدت، في تصريح، عقب لقائها برئيس الجمهورية، أن التأخير الحادث في صرف أجور الموظفين يعود إلى تزامن توقيته مع عطلة نهاية الأسبوع، وشددت على أن أجور الأشهر القادمة ليست مهددة وأن سيناريو إفلاس الدولة الذي يتحدث عنه البعض غير صحيح.
قلق البنك المركزي
وعبّر البنك المركزي التونسي، في بيان نشر أمس الخميس، عن انشغاله العميق إزاء التأخير الحادث في تعبئة الموارد الخارجية الضرورية لتمويل ميزانية الدولة لسنة 2022، كما دعا جميع الأطراف إلى التوافق على مضمون الإصلاحات بما يتيح الانطلاق في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي المعطلة منذ أشهر.
وشدد المركزي على أهمية التزام الحكومة بالشروع في الإصلاحات الهيكلية اللازمة لدفع النمو الاقتصادي، وإحكام التصرف في الميزانية، وتجنب أي لجوء إلى التمويل النقدي (طباعة الأموال) الذي قد تكون عواقبه وخيمة على الاستقرار النقدي والمالي.
ورأى الخبير المالي عز الدين سعيدان أن دعوة وكالة التصنيف الائتماني”موديز” الحكومة التونسية إلى تشخيص “أكثر وضوحا” لمصادر تمويلها للميزانية لضمان استقرار ترقيمها السيادي أكبر مؤشر على ضبابية الوضع المالي الذي تعيشه البلاد.
ولفت إلى أن ميزانية الدولة المبرمجة لسنة 2022 احتوت على 20 مليار دينار (7 مليارات دولار) كقروض داخلية وخارجية إضافية برمجتها الدولة، لكنها لم توضح بالمقابل مصادرها، في ظل غياب أي اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وهذا يعني استحالة الحصول عليها في غياب أي ضمان من المؤسسة النقدية الدولية.
إعادة جدولة الديون
وشدد على أن الحكومة التونسية انطلقت فعليا في إعادة جدولة ديونها الداخلية مع البنوك، بسبب عجزها عن تسديد مستحقاتهم في الآجال المحددة، وذلك يعدّ خطوة تمهيدية لطلب تونس إعادة جدولة ديونها الخارجية وهو ما تأكد جليا من خلال الزيارة السرية التي أداها رئيس الخزانة الفرنسية ونادي باريس، إيمانويل مولان، إلى تونس.
وكان موقع “أفريكا أنتيلجنس” الفرنسي قد كشف عن زيارة خاصة وغير معلنة قام بها رئيس الخزانة الفرنسية ورئيس نادي باريس (مجموعة مالية دولية متخصصة في إعادة جدولة ديون البلدان المفلِسة)، التقى فيها كلا من وزيرة المالية ومحافظ البنك المركزي التونسي.
ولم يستبعد التقرير أن تتطرق مباحثات رئيس الخزانة الفرنسي مع الأطراف التونسية إلى مسألة إعادة جدولة ديون البلاد، وذلك يعني دخولها إلى نادي باريس.
وسارعت السفارة الفرنسية بعد الجدل الداخلي الذي أثارته الزيارة غير المعلنة لرئيس خزانتها إلى نشر بلاغ توضيحي، أكدت فيه أن الزيارة تندرج ضمن “دعم فرنسا لتونس في الإصلاحات التي تعتزم إجراءها في إطار المفاوضات مع صندوق النقد الدولي”.