رحيل الكاتب والمفكر التركي سزائي قراقوج أديب القصيدة الحداثية والاتجاه الإسلامي
توفي، الثلاثاء، الشاعر والكاتب والمفكر التركي سزائي قراقوج عن عمر ناهز 88 عاما، ونعاه العديد من المثقفين والسياسيين والكُتّاب في موطنه وحول العالم.
وقد نشر أول أعماله الأدبية في الخمسينيات من القرن الماضي في مجلة “الشرق الكبير”، وكتب مقالات يومية في صحيفة “يني إسطنبول” (أي إسطنبول الجديدة) بداية من عام 1963.
ودخل الشاعر قلوب عشاق الشعر من خلال قصيدته “مونا روزا” التي كتبها في الخمسينيات وأضحت من روائع الشعر التركي الحديث، وكتب الشاعر مقالات في عدد من الصحف، مثل يني استقلال ويني إسطنبول وصباح، وميللي.
ولد الشاعر عام 1933 في قضاء أرغاني بولاية ديار بكر جنوب شرقي تركيا، حيث أتم دراسته الابتدائية، ودرس الإعدادية في ولاية مرعش، وأنهى الثانوية في ولاية غازي عنتاب عام 1950.
وتخرج عام 1955 من قسم المالية في جامعة أنقرة، وتولى إدارة صفحات الأدب والفن في مجلة “الشرق الكبير” في الخمسينيات.
وعمل قراقوج موظفا في وزارة المالية، وانتقل إلى إسطنبول عام 1959 بحكم وظيفته، وأدى الخدمة العسكرية في أنقرة وأغري عامي 1960-1961.
ولاحقا استقال الشاعر من وظيفته الرسمية، للتفرغ لأعماله الأدبية، وأسس عام 1990 حزب “ديريليش” (وتعني القيامة أو الصحوة، وهو المفهوم الذي لازمه أدبيا وفكريا) وتولى زعامة الحزب لمدة 7 أعوام، وأُغلق الحزب عام 1997.
ومنذ ذلك التاريخ لم يكتب الشاعر قراقوج سوى في مجلة “ديريليش” حيث سعى من أجل نهضة العالم الإسلامي مجددا بعد الهزائم في الحروب العالمية.
وعمل خلال مسيرته الأدبية على إيقاظ الوعي حول هذا المفهوم، وبذل الجهود على الصعيد الشعري والفكري والسياسي من أجل صحوة العالم الإسلامي.
يوصف سزائي قراقوج بأنه رائد الشعر التركي “الميتافيزيقي”، وتراوحت جذور الشاعر الراحل الأدبية بين القصيدة الحداثية والتأثر بتاريخ الحضارة الإسلامية، كنتيجة لاهتمامه بالأدب الغربي والفكر الإسلامي على حد سواء، واعتبر أن التجريد في الفن الحديث مناسب لفهم الإسلام وقد طور قصائده في هذا الاتجاه.
وفي مقدمته لترجمة ديوان “أربعون ساعة مع الخضر” كتب الأكاديمي والمترجم عبد الرازق بركات إن قراقوج نموذج رائع للشعر يجمع بين شرف القضية وعظمتها وروعة الفن وجماله.
كما أن الديوان هو الوحيد في الشعر التركي المعاصر الذي يتخذ من شخصية (الخضر) الدينية محورا تخللت إيحاءاته كل قصائد الديوان الـ40 ممتزجة بصوت الشاعر في نسيج متلاحم تسري فيه روح الماضي والحاضر والمستقبل.
ويقول المترجم إن قراقوج نشأ في ظل ازدواجية حضارية تعم العالم الإسلامي، ومع ذلك فقد تأثر بالشعر الصوفي لجلال الدين الرومي ويونس إمره والشيخ غالب وحافظ الشيرازي وابن عربي وغيرهم، وتأثر كذلك برسائل النور التي ألفها الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي (توفي في أورفا 1960).
وعايش قراقوج الشاعر الإسلامي نجيب فاضل (توفي 1983) الذي حمل لواء الاتجاه الإسلامي في الأدب التركي الحديث بعد رائد ذلك الاتجاه الشاعر محمد عاكف أرصوي (توفي 1936) كاتب النشيد الوطني التركي.
ويقول بركات، الأستاذ بجامعة عين شمس، إن التراث الديني والتاريخي والأسطوري والملحمي والفلكلوري معين ينتقي الشاعر المعاصر من شخوصه ورموزه وأحداثه ما يتسم منها بالتجدد عن طريق الرمز والقناع والمعادل الموضوعي، ويعتبر أن ديوان قراقوج عن الخضر ظاهرة فريدة في الشعر التركي المعاصر فهو يتخذ من التراث الديني محورا تسري إيحاءاته في كل قصائده في نسيج متضافر يوظفه لرؤية إسلامية لأزمة الحاضر المعاصر.
ويتبنى قراقوج مفهوم “الإحياء الإسلامي” الذي تبناه العديد من المفكرين والأدباء في القرن العشرين، ويقول متقمصا شخصية الخضر: “المدن المجدبة موجودة، والخضر.. يحمل إليها النوار.. المتساقط من انشقاق القمر.. وسيأتي مساء يعود فيه.. الشباب إلى تلك المدن”.
فالخضر في ذلك الديوان قناع لقراقوج يستخدمه للتبشير برسالة إصلاحية ومنهج حكيم للتعامل مع الواقع ورعاية مصالح الناس، إذ يقول شعرا “نحن الخضر.. نعرف منابع ماء الحياة في العالم.. تطهرنا صلاتنا كالمشاعل المضيئة.. نتلألأ في الصوم مع عيسى ومريم.. مزامير داود في مسامعنا.. وأصاحيح الإنجيل في ذاكرتنا.. وممالك التوراة نصب أعيننا.. نمضي أمام فيلق ماء الحياة.. كقائد يمتطي صهوة جواد عربي أصيل.. نفتح البلاد.. ومعنا ألواح طور سيناء.. وجيش القرآن”.
وفي سياق مشروعه الفكري، يرى قراقوج أن تحديات الإحياء الإسلامي هي انفصال حاضر الأمة عن ماضيها، والتفتت والتدابر، ويعبر عن ذلك شعرا بقوله:
“في ليلة من ليالي القدر.. بدأ قدر المسلمين.. الذين ذاقوا عذاب النمل فوق الأرض، يتحول.. فهم أكثر الناس فقرا، وانسحاقا، وانهزاما، وعذابا.. صامتون.. مجبرون على الصمت، مجبرون على التغير والتبديل، هم حمض التاريخ! تفيض شلالاتهم لكنهم محرومون من شربة ماء! منزوعون مطروحون خارج الجغرافيا، وخارج منطق الحصاد.. يذرون الرماد فوق أطفالهم.. مرتابون في الفجر ساخرون من النهار.. ركام من الناس محمول إلى شاطئ مستنقع”.
وينتقد قراقوج، بحسب مترجمه للعربية، الاستلاب وقابلية المسلمين للاستعمار، ويقول شعرا “أخي إبراهيم علمني.. كيف أهدم أصنام المرمر؟ فما مر يوم دون أن أهدم واحدا منها.. لكنكم لم تعلموني.. كيف أمحو ما في البيانات والكلمات والأوراق”.
وينتقد اتباع الغرب في ثقافته والاغتراب الحضاري في المسلمين قائلا “ما كان ينبغي السفر؛ لأنه مع الغرباء.. الذين تلفهم الظلمات.. ولأنه سفر إلى الجبال الثلجية.. وأنت اكتويت بنار آشعة الشمس”.
وتحدث قراقوج عن العزلة والعودة منها متمثلا عودة موسى -عليه الصلاة والسلام- من طور سيناء ومعه التوراة، وعودة مريم -عليها السلام- من مكانها الذي انتبذت به، وعودة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام من غار حراء مع آيات القرآن، وقال متمثلا الخضر “عندما أدخل المدينة.. أدخلها كمطر الربيع.. أتعهد ورودها.. وأطهر مياهها، وأرعى مرمرها، ونعوشها، وحطامها، وأقمصتها القذرة المحروقة، وأهدابها الذابلة”.
شرح قراقوج فهمه للشعر في 3 كتب بعنوان “كتابات أدبية” وأشاد صديقه الشاعر التركي الشهير جمال ثريا (توفي 1990) بالشعر الصوفي الذي ابتكره سزائي قراقوج ووصفه بأنه شاعر يمزج محمد عاكف ونجيب فاضل.
ويتعامل قراقوج أيضا مع الشعر التقليدي، لكن لغته مختلفة؛ إذ كتب قصائده بلغة الشعر الحديث، وعرف قراقوج بالعناية في شعره بالتجريد وهو ما جعله على تماس مع الفن الحديث المستند على التجريد بشكل عام كذلك.
ووفقا له، إذا ترك الشاعر القصيدة في مستوى التجريد، فإنها ستكون ناقصة، ولإكمالها، يجب على الشاعر إعادة البناء، أي وضع الشيء الذي جرده في سياق جديد.
ويؤكد قراقوج أيضا أن الشاعر يجب أن يعيش مبادئه الشعرية ويتمثلها وأن يكون على طبيعته، وأن يكون مكتفيا بذاته ويرضى عن نفسه ويحب عمله “ويداعبه ويتغاضى عن شره أيضا”.