إثر تصاعد التوتر مع فرنسا.. تعميم اللغة العربية في الجزائر
إثر تصاعد التوتر الدبلوماسي مع فرنسا، تصاعدت الأصوات في الجزائر لإحداث قطيعة ثقافية نهائية مع المحتل القديم، باتخاذ جملة من التدابير على رأسها إحياء القانون المتعلق بتعميم استخدام اللغة العربية.
ومنذ مطلع الشهر الماضي، توالت قرارات إنهاء التعامل باللغة الفرنسية في عدة قطاعات حكومية، وسط دعوات لتعزيز مكانة اللغة العربية باعتبارها اللغة الرسمية للبلاد، وكذا دعم حضور الإنجليزية في التعليم.
والمقصود بتعميم العربية اتخاذها لغة عمل وحيدة في المحررات والمعاملات الإدارية داخل المؤسسات الرسمية في البلاد.
وتزامن قرار الوزارات مع أزمة متصاعدة مع فرنسا بعد تصريحات للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وُصفت بـ”المسيئة” حيث طعن في تاريخ الجزائر، وقال إنه لا وجود لأمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي، مما أدى بالأخيرة إلى سحب سفيرها من باريس وحظر عبور الطيران العسكري الفرنسي لأجوائها.
وانتفضت الأوساط السياسية في الجزائر ضد هذه التصريحات، وسارعت إلى سن قانون لتجريم الاستعمار الفرنسي للبلاد (1830-1962) والتمكين للعربية داخل المؤسسات الحكومية وطرد الفرنسية منها.
وتنظر باريس للغة الفرنسية على أنها أداة نفوذ ثقافي يعزز نفوذ فرنسا السياسي والاقتصادي في مستعمراتها القديمة، ومنها الجزائر، وسبق أن أصدر مجلس الشيوخ الفرنسي عام 2017 تقريرا تساءل فيه عن أسباب عدم انضمام الجزائر إلى منظمة الدول الفرانكفونية، رغم الانتشار الواسع لهذه اللغة بين سكانها.
والفرنسية هي اللغة الأجنبية الأولى في الجزائر، ويبدأ تدريسها إجباريا في السنة الثانية من المرحلة الابتدائية، في حين تبدأ الإنجليزية في مناهج التدريس في الطور المتوسط (الأساسي).
وعادة ما تشهد الجزائر جدلا بشأن مكانة الفرنسية في الأوساط الرسمية بالدرجة الأولى، إذ يحتج معارضون، وخصوصا من المحافظين، على صدور خطابات رسمية ووثائق في الإدارات الحكومية بالفرنسية.
وعام 2019، عمل وزير التعليم العالي والبحث العلمي (وزارة الجامعات) السابق الطيب بوزيد على مشروع استبدال الفرنسية واعتماد الإنجليزية لغة تدريس وبحث علمي.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2020، أًصدر وزير العمل والضمان الاجتماعي السابق الهاشمي جعبوب، لكافة إطارات الوزارة، تعميما يحظر فيه استخدام الفرنسية عند استقبال ومخاطبة المواطنين.
ليعرف شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي تتابعا غير مسبوق للقرارات الوزارية الرامية إلى إلغاء الفرنسية وتعويضها بالعربية.
وكانت أقوى القرارات إصدار 3 وزارات، هي “التكوين المهني” و”الشباب والرياضة” و”العمل”، تعليمات إنهاء التعامل بالفرنسية، واستخدام العربية حصرا في جميع المراسلات والتقارير ومحاضر الاجتماعات والوثائق.
وثمة معلومات متداولة داخل وزارات بوجود تعليمات شفهية من أعلى سلطات البلاد بإنهاء التعامل بالفرنسية داخل القطاعات الحكومية، لكن لم يتسن للأناضول التأكد من صحة تلك المعلومات.
وتشير مصادر متقاطعة إلى أن إخراج الفرنسية من الإدارة الجزائرية لا يستحق قرارا سياسيا، فهو ضمن نطاق الصلاحيات المخولة لأعضاء الحكومة، ويمكن التوجه تدريجيا نحو هذا المسعى حتى يترسخ ويتحول إلى آلية عمل دائمة.
قانون تعميم العربية
وفي سياق التمكين للعربية باعتبارها اللغة الرسمية لدولة الجزائر بنص الدستور، تجددت الدعوات إلى إعادة إحياء “قانون تعميم اللغة العربية”.
والمقصود بكلمة “إحياء” هو أن القانون موجود، لكنه ظل مجمدا منذ ما يقارب 30 عاما.
وفي يناير/كانون الثاني 1991، أصدرت السلطات الجزائرية قانونا يقضي بتعميم استخدام العربية في المعاملات كلها داخل القطاعات الحكومية، لكن تطبيقه بقي معلقا لأسباب يقول معارضون إنها تعود لنفوذ ما يُسمى “اللوبي الداعم لفرنسا” بالبلاد.
وقال المؤرخ عامر رخيلة إن هذا النص التشريعي “تم سنه والمصادقة عليه من قبل المجلس الشعبي الوطني (الغرفة الوحيدة للبرلمان آنذاك)، وصدر في الجريدة الرسمية، لكنه لم يدخل حيز التنفيذ”.
وأضاف رخيلة للأناضول أن “المبادرة بهذا القانون فرضتها تجاذبات سياسية بين حزب جبهة التحرير الوطني (الحاكم سابقا) وحزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ (محظور)، لكن أدخل الثلاجة بتعليمة (توجيه) من جهات عليا في الدولة لأسباب لا تزال غامضة”.
وأكد المتحدث أن لمسة اللوبي الفرنسي كانت واضحة جدا في الدفع باتجاه تجميد القانون وعدم اعتماده، خاصة وأنه كان يأمر بالشروع في فرض اللغة العربية، في جميع المؤسسات “ليتم تعليقه قبل الآجال المحددة”.
أحمد صادوق رئيس كتلة حركة مجتمع السلم (أكبر حزب إسلامي في الجزائر) على مستوى المجلس الشعبي الوطني (الغرفة الأولى للبرلمان)، أكد أن “إحياء هذا القانون مبرمج كخطوة تلي قانون تجريم الاستعمار”.
والأحد الماضي، وضع حوالي مئة نائب مشروع قانون تجريم الاستعمار الفرنسي في الجزائر لدى مكتب المجلس الشعبي الوطني.
وقال صادوق للأناضول “خطوتنا الموالية رفع التجميد عن النص المجمد بتعليمة مجهولة سنة 1993”. وأفاد بأن “التيار التغريبي (نسبة إلى الثقافة الغربية) المتحكم في دواليب السلطة آنذاك استطاع تجميد القانون”.
واعتبر أن الفرصة مواتية لإعادة إحيائه “كونه قانونا جيدا” وحتى “إضافة أو تعديل بعض المواد ليتلاءم مع الوقت الراهن” خاصة “مع التوجه الجديد للسلطة الجزائرية تجاه فرنسا”.
وقال إن التمكين للغة العربية لن يتوقف عند إحياء القانون، وإنما لا بد من سن قانون آخر “يجرم” استخدام الفرنسية في المؤسسات والإدارة الرسمية للدولة الجزائرية، بما يعطي حصانة قوية للغة الوطنية.
هل ينبغي سن قوانين؟
ويقول خبراء ومؤرخون إن انتشار الفرنسية في الجزائر يعود إلى فرضها خلال الحقبة الاستعمارية التي استمرت 132 سنة (1830-1962)، ومحاربة الاحتلال للعربية، فضلا عن تأخر تطبيق قوانين لتعريب الإدارة والتعليم بعد الاستقلال.
يذهب آخرون إلى القول بأن الخلاص من النفوذ الفرنسي في مفاصل الدولة الجزائرية هو تحرير الإدارة بشكل نهائي من الفرنسية، لأنها ليست مجرد لغة عمل وإنما “أيديولوجية” تخفي وراءها في الغالب توجهات في صالح فرنسا.
وفي السياق، شدد المؤرخ عامر رخيلة على أهمية سن القوانين بدل الاكتفاء بالتعليمات الوزارية في تعميم العربية “لأن التراجع عن التعليمة أسهل مما يكون باعتبارها مجرد توجيهات إدارية، ولا بد من التأسيس للأمر على نص قانوني أو مرسوم تنظيمي”.
وأضاف “القوانين لم تصمد أمام الموالين للغة الفرنسية فما بالك بتعليمات”، ليستطرد بأن “نجاح الخطوات يتزايد بالنظر إلى المعاملة الندية والواضحة التي يتبناها الرئيس عبد المجيد تبون مع فرنسا”.
وقال “خطاب تبون حيال المستعمر القديم لم نسمعه من وقت الزعيم الراحل هواري بومدين (1965-1978).. وهو خطاب مرفق بإجراءات”.