لماذا فشلت أمريكا في تغريب أفغانستان؟
ليس من شك بأن خروج الولايات المتحدة ومن معها من الحلفاء من أفغانستان انتصار كبير لطالبان، لكنه ـ في الوقت نفسه ـ انتصار للأمة ودينها وقيمها ومبادئها ورسالتها التي خرجت طالبان من رحمها، واستندت إليها في بنائها، وحشدت جماهيرها من محيطها.
ولقد جاء انتصار طالبان بعد فشل الولايات المتحدة الأمريكية في حكمها لأفغانستان، وتجلى هذا الفشل في أمرين، هما:
الأول ـ هو الفشل في تغريب المجتمع الأفغاني، بمعنى إيجاد مجتمع أفغاني يزاوج بين القيم الغربية والإسلام، أو قل بمعنى آخر: تطويع الإسلام لصالح مبادئ الحضارة الغربية، مع طمس هويته الإسلامية، وهو ما سعت إليه أوروبا بعد سقوط الخلافة العثمانية في عام 1924، ثم استلمت الراية أمريكا من أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وكان احتلال أفغانستان إحدى حلقات هذا التغريب، وجاءت في إطار “مشروع الشرق الأوسط الجديد” الذي طرحه بوش بعد إسقاط برجي التجارة في نيويورك عام 2001.
الثاني ـ هو فشل أمريكا في صناعة قيادة جديدة يقبل بها الشعب الأفغاني: بدءا من حامد كرزاي وانتهاء بأشرف غني ومرورا بعبد الله عبد الله، وهذه القيادات نبذها الشعب الأفغاني، وبقي وفيا لقيادته السابقة المتمثلة بقيادة طالبان.
وقد أثبت الشعب الأفغاني أنه شعب مسلم، يريد قيادة إسلامية، وهو لن يخضع ولن يذعن إلا لقيادة إسلامية، تدين بالإسلام، وتنطلق به، وتحمل رايته، وهو ما وجده في طالبان، لذلك أسلم كيانه لها، ولم يسلمه لعملاء أمريكا وأذناب الحضارة الغربية.
وهذا الفشل لأمريكا في أفغانستان يذكرنا بفشلين آخرين في مكانين آخرين، هما:
الأول ـ فلسطين، وهو فشل إسرائيل في تغريب الشعب الفلسطيني وطمس هويته بعد نكسة عام 1967.
والثاني ـ سوريا، وهو فشل قيادة البعث في اقتلاع الإسلام واستئصال المتدينين من سوريا بعد الانقلاب في عام 1963.
أما فلسطين فقد مارست إسرائيل بعد احتلالها الضفة الغربية وغزة عام 1967 كل أنواع التأثير الفكري والثقافي والإفساد الأخلاقي والإغراء المادي، من خلال برامج مرتبة ومدروسة ومعدة إعدادا محكما من أجل تغريب المجتمع الفلسطيني وطمس هويته الإسلامية، وإعداد قيادة مهادنة لإسرائيل، لكنها فشلت في الأمرين وانبثقت -على العكس من ذلك- الانتفاضة الأولى في نهاية عام 1987، وتحركت فيها جماهير الشعب الفلسطيني في كل أنحاء غزة والضفة الغربية بقيادة حماس والجهاد الإسلامي، واستمرت لمدة ست سنوات حتى وقع ياسر عرفات اتفاقية أوسلو في أيلول من عام 1993.
أما سوريا فقد قفز البعث عام 1963 إلى حكم سورية من خلال انقلاب عسكري، وقد استهدف البعث اقتلاع الدين من حياة السوريين، واستئصال المتدينين بحجة أن كليهما رجعيون، معادون للنهضة والتقدم، فلا بد من استئصالهما، مستلهما في ذلك الفكر القومي العلماني، والفكر الاشتراكي الماركسي.
ثم تمكنت الطائفة العلوية من الحكم متعاونة مع حزب البعث بعد انقلاب حافظ أسد على الحكم في عام 1970 واستمر الطرفان متعاونين من أجل اقتلاع الدين واستئصال المتدينين، لكنها فشلا في ذلك فشلا ذريعا، وأبرز ما يدل على ذلك هو الثورة السورية التي بدأت في 15/3/2011، والتي انطلقت من المساجد، وكان مادتها الجمهور المسلم، بشعارات إسلامية في مواجهة الطغيان، وقدمت هذه الثورة مليون شهيد على الأقل بعد عشر سنوات، وضعفهم من الجرحى والمعاقين وقدمت اثني عشر مليونا من المهجرين بين الداخل والخارج.
إن هذه الأمثلة الثلاثة في انتصار طالبان وفشل أمريكا في تغريب الشعب الأفغاني، وفي انتصار حركة “حماس” والجهاد الإسلامي وفشل إسرائيل في طمس هوية الشعب الفلسطيني الإسلامية، وكذلك انتصار الشعب السوري لدينه وعلمائه في مواجهة محاولة البعث لاقتلاع الدين الإسلامي واستئصال المتدينين، كل ذلك يؤكد حيوية هذه الأمة، وكل ذلك يحتم ضرورة التواصل والاستفادة من تجارب بعضنا، والتعاون على مواجهة الأعداء المشتركين لنا معا.
وتبرز تلك الأمثلة أن الأمة التي أنجبت جيل الانتفاضة في فلسطين بعد عشرين سنة من الاحتلال والقهر والإذلال والتخريب، والإفساد والإفقار بين عامي 1967 ـ 1987، هي نفس الأمة التي أنجبت طالبان “طلاب المدارس الشرعية” الذين حرروا أفغانستان بعد عشرين سنة من الاحتلال والتدمير والإذلال والإفقار والإفساد الذي قامت به أمريكا بين عامي 2001 ـ 2021، وهي نفس الأمة التي أنجبت ثورة سوريا عام 2011 بعد خمسين سنة من محاولة اقتلاع الدين الإسلامي واستئصال المتدينين الإسلاميين بأعنف الطرق وأشدها شراسة وإجراما، وكان الفشل في النهاية هو ثمرة كل هذه التجارب وهذا يوضح أن هذه الأمة عصية على التخريب والتدمير، وأنها تملك رصيداً من الثقة بدينها وقيمها ومبادئها ورصيدا من الشخصية التاريخية والصوابية ما يجعلها تواجه بها محاولات التدمير والتفتيت في كل مكان، كما فعلت ذلك في كل من فلسطين وسوريا وأفغانستان.
هذه بعض الأضواء على الماضي والحاضر الذي تمر به طالبان، أما بالنسبة للمستقبل فأهم ما يجب أن تحرص عليه طالبان هو صلتها بأمتها، والأهم ـ الآن ـ أن تستفيد من هذه الصلة في بناء نفسها في مختلف المجالات العلمية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتكنولوجية إلخ.
وفي مجال علاقات طالبان مع الأمة، تبرز التجربة السابقة التي خاضتها طالبان مع أسامة بن لادن، والتي تمثلت في استقبالها له في عام 1996 قادما من السودان، ثم أعلن أسامة بن لادن مع أيمن الظواهري في قندهار 1998 عن اندماج تنظيميهما تحت مسمى “الجبهة العالمية للجهاد ضد اليهود والصليبيين” ثم نفذت هذه الجبهة عدة أعمال عدائية ضد أمريكا أولها كان تفجير السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام في 7 ـ 8 ـ 1998 ثم نفذت هجماتها ضد أمريكا ودمرت برجي التجارة في 11-9-2001 مما استدعى الرد الأمريكي ومهاجمة أفغانستان في 7 ـ 10 ـ 2001 ثم احتلالها، واقتلاع طالبان من الحكم في أفغانستان.
ليس من شك بأن هذه التجربة تجربة مرة في علاقة طالبان مع أمتها، لكن يحسب لها وفاؤها لأبناء أمتها، فقد رفضت تسليم بن لادن لأمريكا من أجل محاسبته على القيام بتفجيرات أمريكا وكان هذا السبب المباشر في إنهاء حكمها لأفغانستان. لذلك نأمل ألا تكون هذه التجربة المرة سببا في الحيلولة دون تعامل طالبان مع إخوانها المسلمين خارج أفغانستان.
وأعتقد أن طالبان تدرك أنها جزء من أمة عظيمة تمتد من طنجة إلى جاكرتا، ومن الواضح أن هذه الأمة ذات إمكانيات هائلة وكبيرة، ويجب أن تعتبر طالبان نفسها طليعة هذه الأمة، وتقودها، وتستفيد من كل طاقاتها: العلمية والاقتصادية والثقافية والسياسية والاجتماعية إلخ…
ومن المفيد أن تعلم طالبان أن هذه الأمة العظيمة والممتدة من طنجة إلى جاكرتا هي عمقها ومادتها الرئيسية، وجمهورها الذي يتطلع إليها في إعادة الأمة والدين إلى قيادة البشرية، فكما أن الإسلام خرج من الجزيرة العربية وأنشأ حضارة منقذة للبشرية في المرة الأولى، يمكن أن يخرج من أفغانستان لينقذ البشرية في المرة الثانية.
الخلاصة: بيّنا في العرض السابق أن انتصار طالبان في أفغانستان أبرز فشلين للولايات المتحدة الأمريكية، هما: الفشل في تغريب المجتمع الأفغاني، والفشل في توليد قيادة بديلة لطالبان تقود الشعب الأفغاني وهذا الفشل الأمريكي ذكرنا بفشلين آخرين وهما: فشل إسرائيل في طمس هوية الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة بعد احتلالها لهما عام 1967، وفشل البعث في سورية في اقتلاع الدين واستئصال المتدينين بعد استلام السلطة عام 1963.
ثم عرجنا على التجربة المرة التي عاشتها طالبان مع أسامة بن لادن، وقلنا إن هذه التجربة يجب أن لا تجعلها تحجم عن التعاون مع أمتها الإسلامية.
ثم بيّنا أن طالبان جزء من أمة عظيمة تمتد من طنجة إلى جاكرتا، وأن عليها أن تستفيد من طاقات هذه الأمة وامكاناتها الهائلة، وأن تقودها لإنقاذ البشرية من السقوط الذي تتردى فيه الآن.