محنة التّونسيين عام 1881م وموقف اللّيبيين
الوثيقة التي بين أيدينا هي عبارة عن تقرير صادر عن جهة رسميّة في الدّولة العثمانيّة، وهي مجلس شورى الدّولة في إسطنبــول، ورقـــم هذه الوثيـــقة هو (I. SD 74/4380 LEF 2)، وهي مأخوذة من الأرشيف العثماني التّابع لرئاسة الجمهوريّة التّركية، والوثيقة مؤرخة بتاريخ 9 جمادى الأولى سنة 1302 هــ/ الموافق لــ 24 فيفري سنة 1885م. ويتعلّق النّص بأحداث لجوء التّونسيين إلى مناطق مختلفة من طرابلس الغرب (ليبيا حاليّا) بسبب الغزو الفرنسي للبلاد التّونسية في ربيع عام 1881م، بمعنى أن الوثيقة كتبت بعد نحو أربع سنوات فقط من الاحتلال الفرنسي لتونس. وهذا يعني أن تاريخ كتابة النّص وإعداده هو نفسه تقريبًا تاريخ وقوع أحداث النصّ، ومن هنا يمكننا القول بأنّ للنّص أهمية كبيرة باعتباره ينقل وقائع راهنة في ذلك الوقت، وهي تهم التّونسيين والليبيين على حدّ سواء، وتؤرّخ لمرحلة مهمّة من تاريخ العلاقات بين الطرفين.
ويمكن تقسيم النّص إلى ثلاثة أقسام كبرى: ويتعلق القسم الأوّل بأعداد التّونسيين اللاجئين، والقسم الثاني حول توزّع التّونسيين جغرافيا في ليبيا، وأمّا القسم الثّالث وهو المهم فهو يتناول طبيعة تعامل اللّيبيين مع التّونسيين في محنتهم.
وقبل تحليل محتوى الوثيقة يحسن بنا أن نشرح بعض الكلمات والمصطلحات الواردة فيها حتّى يساعدنا ذلك على فهم أعمق وتحليل أدق لبواطن الوثيقة. ومن المهم كذلك إلقاء الضوء على المجال الجغرافي الذي وقعت فيه الأحداث، وكذلك الفترة الزّمنية وما تمثله بالنّسبة إلى تونس بشكل خاصّ، إذ هي مرحلة حاسمة في تاريخها، وسوف تنعكس هذه الأحداث على تاريخ تونس حتّى الوقت الرّاهن سواء سلبا أو إيجابًا.
من بين أسماء المؤسسات المذكورة في الوثيقة “مجلس شورى الدولة”، وهذه الدائرة تشكلت عام 1868م نتيجة لعدد من التّغييرات في بنية الدّولة العثمانية. وهذه الدائرة هي من أعلى المجالس في الدولة، وتقوم بدراسة الأعمال الإداريّة. وهي بمثابة محكمة عليا لمحاكمة الموظّفين وأمور التّقاعد، وتدقيق النظم وتمحيصها ثم التّصديق عليها، والنظر في الدّعاوي المتنازع عليها بين الحُكومة والمجتمع، وغيرها من الأمور والصّلاحيات التي تجمعت في هذه الإدارة. ويوجد مئات من الوثائق، الواردة مدوّنة بحسب الوزارات والولايات. ويوجد في هذه المجموعة الوثائق الأصليّة لكثير من القرارات والتقارير التي تتعلّق بطرابلس الغرب.
اُستخدمت في الوثيقة عبارة “لجُوء”، وكذلك عبارة “هجـــرة”، والمقصود بالهجرة هي عملية الانتقال من بلد إلى آخر لأسباب وأهداف مختلفة، سواء للإقامة أو العمل والبحث عن مصدر للرزق. أمّا اللجوء فهو الفرار من مكان غير آمن والانتقال إلى مكان آخر أكثر أمانًا، وهذا ما ينطبق على وضعية التّونسيين الذين هاجروا من تونس وانتقلوا إلى طرابلس بحثا عن الأمن وفرارًا من قمع الفرنسيّين ومظالمهم.
وفي اتصال بالقسم الأوّل من مضمون الوثيقة، فإنّ الوثيقة تخبرنا بسبب هجرة التّونسيين وهو “تعدّي الفرنسيّين على تونس”، وتخبرنا كذلك بأعدادهم التي “تتجاوز المائتين وخمسين ألف شخص”. ويؤيد هذا الرّقم وثيقة أخرى ذكرت بالتفصيل أعداد اللاّجئين من كلّ قبيلة والمسلّحين منهم وغير المسلحين (انظر: الأرشيف العثماني، وثيقة رقم Y. PRK. KOM, 3/42 ) والوثيقة المذكورة تورد الإحصائيّات التّالية عن المهاجرين:
قبيلة الهمامة: المهاجرون: 52.000 ، المسلحون: 15.000
قبيلة سيدي تليل: المهاجرون: 10.000، المسلحون: 1.500
قبيلة سيدي عبيد: المهاجرون: 5000، المسلحون 500
قبيلة دريد: المهاجرون: 3000، المسلحون: 400
قبيلة ماجر: المهاجرون: 10000، المسلحون: 1400
قبيلة الفراشيش: المهاجرون: 5000، المسلحون: 1000
قبيلة جلاص: المهاجرون: 20.000 ، المسلحون: 5000
قبيلة نفات: المهاجرون: 10.000، المسلحون: 2000
قبيلة بني يزيد: المهاجرون: 2500، المسلحون: 500
قبيلة السواسي، المهاجرون: 5000، المسلحون: 1000
قبيلة المثاليث، المهاجرون: 3000، المسلحون: 1000
قبيلة أولاد سعيد: المهاجرون: 4000، المسلحون: 1000
قبيلة ورغمة: المهاجرون: 80000، المسلحون: 20000
قبيلة أولاد يعقوب: المهاجرون: 1000، المسلحون: 200
قبيلة المرازيق: المهاجرون: 10000، المسلحون: 2000
قبيلة المهاذية: المهاجرون: 8000، المسلحون: 1000
قبيلة العكارية: المهاجرون: 1000، المسلحون: 200
قبيلة القواسم: المهاجرون: 1000، المسلحون: 150
قبيلة أولاد عيار: المهاجرون: 1000، المسلحون: 200
قبيلة الغريب: المهاجرون: 2000، المسلحون: 500
المجموع: المهاجرون: 233.500، المسلحون: 54.550
وهذا العدد (232500 مهاجر) يُعتبر مرتفعًا جدّا إذا علمنا أن عدد سكان البلاد التونسيّة كلها في تلك الفترة كان يقدّر بحوالي الـمليون ونصف المليون نسمة.
ويمكن تفسير هذا “الزّحف الواسع” باتجاه طرابلس الغرب بسياسة القمع الشديدة التي انتهجتها فرنسا أثناء عزوها للبلاد من ناحية، وكذلك رفض الأهالي وعدم تقبّلهم لهذا الوافد الجديد الغريب على بلادهم.
الأمر الثاني الذي نفهمه من الوثيقة أن التّونسيين توزعوا في ثلاثة مواقع رئيسية من ليبيا وهي مركز البلاد طرابلس الغرب وزليطن وخمس. وعندما ننظر في الخريطة يتبيّن لنا أنّ ثلاثتها تقع في شمال غرب البلاد غير بعيد عن التّراب التّونسي أملاً في الرّجوع القريب إلى وطنهم الذي غادروه مُكرهين، ولأنّ إمكانياتهم لا تسمح لهم بالتوغّل أكثر إلى المدن اللّيبية الأخرى البعيدة عن تونس.
وإذا أتينا إلى العنصر المهم في هذه الوثيقة والذي يحتل المساحة الأكبر فيها، وهو طبيعة تعامل السّلطات في ليبيا والأهالي هناك نجد أنّ التّونسيين استقبلوا استقبال الضّيوف، وقُدمت لهم كل المساعدات التي يحتاجونها. وهنا يمكن تقسيم التّونسيين الوافدين إلى ثلاثة أقسام وفق ما ورد في الوثيقة قيد الدّرس. قسم كبير منهم رجع إلى تونس بعد عودة الهدوء النّسبي إلى البلاد وتراجعِ نسق المقاومة، وقسم اندمج في المجتمع اللّيبي وحصل على أعمال وأصبح يكسب قوت يومه بنفسه، وبالتّالي لم يعد في حاجة للمساعدة، والقسم الثالث وهم عدد قليل جدّا ممّن انقطعت بهم السّبل، وكانوا في حاجة ماسّة للعون والدّعم وعددهم حسب الوثيقة 52 شخصًا، وهؤلاء خُصص لكل واحد منهم مبلغٌ من صندوق البلديّة في شكل معاش شهريّ قدره 1400 غروس.
وينبغي الإشارة إلى أن الوثيقة قدّمت أرقامًا مفصّلة عن المبالغ التي صرفت من الصناديق الماليّة التّابعة لبلديات طرابلس، وخمس، وزليطن خلال فترة وجود التّونسيّين بكثافة في هذه المدن في المدة المتراوحة بين شهر شباط من سنة 1297 رومي (يوافق شهر فيفري سنة 1882م) وحتى غاية شهر تموز من سنة 1300 رومي (يوافق شهر جويلية سنة 1884م). وكان نصيب بلدية طرابلس من الإنفاق هو الأعلى إذ بلغ 212550 غروشا، وإنفاق صندوق بلدية خمس 43292 غروشا، بينما بلغت نفقات صندوق زليطن21500 غروشا فقط. وواضح أن سبب اختلاف الأرقام في النّفقات راجع إلى اختلاف أعداد اللاّجئين التّونسيّين في كلّ مدينة من هذه المدن الثّلاثة.
تكشف هذه الوثيقة وغيرها أنّ التّونسيين في محنتهم إبّان الاحتلال الفرنسي وجدوا في إخوانهم وجيرانهم اللّيبيين خير ظهير. فقد استقبلوهم وآووهم ونصروهم ووفروا لهم السكن والغذاء والأمان طوال مدة بقائهم في المناطق التي توجهوا إليها داخل ليبيا. وأرقام اللاجئين من حوالي عشرين قبيلة تونسيّة والذين يعدّون بعشرات الألوف تبين عمق المودة والأخوة بين الشعبين الشّقيقين. والأكيد أنّ أحداث التّاريخ وطّدت هذه العلاقات وزادت في صلابتها. والتّونسيون لم يمتنّوا بشيء على إخوانهم اللّيبيين عندما آووا نحو مليون ليبي على أرضهم خلال ثورتهم عام 2011م لأنهم كانوا يرون ذلك عبارة عن ردّ للجميل على أفضال سَبقت منهم قبل أكثر من مائة عام.
عن الكاتب د. مصطفى الستيتي
باحث متخصص في التاريخ العثماني