أعراق مختلطة ولغات متداخلة.. ما أصول الأقوام التركية؟
ثار حديث واسع في تركيا حول ادعاء خبراء وأساتذة جامعات في مجالي اللغة والتاريخ بأن أصل الأتراك يعود إلى المغول؛ مما شكل مفاجأة في الأوساط الشعبية، كون العيون والبشرة وكامل الملامح التركية بعيدة عن الهيئة المشهورة للمغول.
يأتي هذا الجدل في ظل قول باحثين آخرين إن أصل الأتراك من عجم بلاد فارس؛ كون لغتهم التركية مليئة بكلمات فارسية مثل “نماز، وسبزي، وهفتا”، التي تعني “صلاة، وخضار، وأسبوع” على التوالي، في حين حاجج البعض بعروبتهم نظرا لكتابة اللغة التركية بحروف عربية حتى الربع الأول من القرن العشرين، ووجود كلمات عربية كثيرة في لغتهم مثل “مع الأسف، وساعة، وأوراق”. فما أصل الأتراك إذن؟
أصول الترك
رئيس قسم الفلسفة وأستاذ التاريخ في جامعة ابن خلدون بإسطنبول برهان كور أوغلو ذكر أن هناك عدة آراء حول اسم التُّرك، لكن الأكثر قبولاً منها أن الكلمة مصدرها فعل (Türe)، التي تعني التناسل باللغة التركية.
وقال كور أوغلو رغم أن كلمة (تُرك) استخدمت للدلالة على القومية التركية منذ زمن بعيد، فإن نصًّا فارسيًّا يعود لعام 420 ميلادية ينسب الكلمة للأقوام الالتائية التي تعيش شمال نهر سيحون، كما أن نصًّا آخر أشار إلى كلمة “الهون التُرك” بمعنى “الهون الأقوياء”، فضلا عن وجود وثيقة قديمة مكتوبة باللغة الأويغورية تشير إلى أن كلمة تُرك تعني “القوة والغلبة”.
الأقوام التركية
عرّف المؤرخ التركي كور أوغلو الإنسان التركي بالشخص الذي يتحدث التركية، مبينا أن “أي تعريف آخر يبقى ناقصًا، وإذا أردنا النظر للأتراك من ناحية عرقية فعلينا إدراك أنهم هاجروا لمختلف أنحاء الأرض، واختلطوا بالأجناس المحلية في الأماكن التي هاجروا إليها، ليفقدوا بذلك صفة “العرق الصافي” أو “العرقية الخالصة”.
وأضاف “بعض الباحثين أخطؤوا باعتبارهم الأتراك عرقًا، والحجج المبنية على هذا الفهم ضعيفة؛ فبعد دخول الأتراك في الدين الإسلامي، أسسوا دولاً إسلامية كبيرة، وأصبح اسم الأتراك لا يذكر إلا مرتبطا بالإسلام، ونرى هذا الأمر أكثر وضوحًا في النصوص البيزنطية، ومن بعدها الغربية التي ورد فيها مصطلح الأتراك مرادفًا للإسلام”.
ولفت كور أوغلو إلى أن “الأقوام التركية” هاجرت تباعًا من منطقة جبال الألتاي الممتدة بين مناطق سيبيريا الروسية وحتى منغوليا والصين، إلى وسط آسيا وإيران والقفقاس ووسط أوروبا والأناضول، كما أن الأقوام التركية التي تتحدث بلهجات تركية مختلفة أخذت أسماءً مختلفة؛ لها كأتراك الهون، وأتراك الأويغور، وأتراك الخزر، والغوك تُرك، والآفار، والقيرغيز والكازاخ، وغيرها.
وكان للعلماء الذين بحثوا في شؤون وثقافة الأتراك تفاسير مختلفة حول كلمة تُرك؛ فالمستشرق الفرنسي وعالم التركيات جان بول رو ذكر أنه من الخطأ اعتبار الأتراك عرقًا، ويقول في كتابه “تاريخ الأتراك” إن “التعريف الوحيد المقبول حول الأتراك هو التعريف اللغوي”.
مغولية الأتراك
في سياق متصل، قال المؤرخ أحمد ناصر غالبًا يعتمد المؤرخون في بحوثهم التأصيلية للجماعات والأقوام على مصدرين رئيسين؛ الأول العائلة اللغوية التي تنتمي إليها لغة الجماعة المستهدفة في البحث، والثاني المنطقة الجغرافيّة التي قدمت منها تلك الجماعة.
وأكد المؤرخ ناصر أن المصادر التاريخية العربية الأولى كالطبري والمسعودي وابن خلدون وبعض كتب الحوليات كانت تتحدث عن “الترك” بوصفهم إحدى الجماعات “الأعجمية” الثلاث التي عرفها العرب الأوائل: الفرس والترك في الشرق، والروم في الشمال والغرب.
ولفت إلى أن العلاقة بين الترك والعرب تميّزت عن علاقة الأخيرين بالفرس والروم، منذ اتصالهم الأول الذي يعود إلى فترة خلافة عثمان بن عفان، ليستمر خلال فتوحات الأمويين في بلاد ما وراء النهر، مروراً بالعباسيين الذين اعتمدوا عليهم كلّيا في ثورتهم ضد الأمويين وصاهروهم وأدخلوهم في مفاصل الدولة.
الشعوب التركية
قال ناصر -الذي عمل أستاذا للتاريخ في جامعة الفرات، وفي مدارس الأئمة والخطباء التركية “تُعَدُّ منطقة ما وراء النهر تركستان (أي بلاد الترك في آسيا الوسطى)، التي تضم اليوم كلاً من الجمهوريات الإسلامية: تركمانستان، وأوزبكستان، وكازاخستان، وقيرغيزيا، هي مواطن الأتراك الأولى التي انطلقوا منها إلى العالم الإسلامي وبقية أرجاء العالم”.
وأضاف “تمتدُّ هذه المنطقة من هضبة منغوليا وشمال الصين شرقًا، إلى بحر قزوين غربًا، وهذا ما دفع العديد من المؤرخين لتنسيب العنصر التركي إلى العائلة المغولية، لغويًّا واثنيًّا، رغم وجود العديد من الفوارق الشكلية واللغوية والاجتماعية بين العنصرين”.
أوضح أن كتابات وادي “أورخون” التي اكتشفت عام 1889 في منغوليا جاءت لتدعم آراء الباحثين القائلين بالأصول المغولية للأتراك، إذ تعود هذه الكتابات إلى إحدى الجماعات التركية، واسمها “الغوك تورك”، وقد خُطت الكتابات بين عامي 732 و735م.
في نظام الملة بالعهد العثماني، أطلق لفظ الترك على المواطنين العثمانيين من السنة المتحدثين بالتركية، خاصة قرويي الأناضول، بينما تطلق اللفظة ذاتها الآن على مواطني الجمهورية التركية، وتنتمي اللغة التركية لمجموعة لغوية تنحدر من آسيا الوسطى.
تداخل لغوي
أما علماء اللغة، فقد تبنوا نظرية انضمام اللغة التركية لعائلة اللغات المغولية، التي تشمل التتارية والمنغولية واللغة التركية المعاصرة، ويبقى دليل علماء التاريخ على مغولية الترك مرتبطًا فقط بتوثيق نزوحهم من بوادي أواسط آسيا نحو الغرب بسبب هجمات المغول التي قادها “جنكيز خان” في بدايات القرن 13 للميلاد.
وفي ختام حديثه، يعتقد المؤرخ ناصر أن الأتراك على اختلاف عشائرهم وقبائلهم وجماعاتهم، هم أسرة واحدة مستقلة كل الاستقلال عن المغول أو الفرس أو العرب أو غيرهم، رغم توزّعهم الجغرافي المتاخم تاريخيًّا لمناطق انتشار تلك الأقوام.
زاهر البيك – أنقرة – الجزيرة نت