البنك الدولي يعدل معايير الفقر.. مصريون وصلنا للتسول
تتزايد شكاوى المصريين من تدهور أوضاعهم الاقتصادية وتردي مستوى معيشتهم، حيث يعانون من الفقر وضيق ذات اليد وضعف قدرتهم الشرائية، ما انعكس سلبًا على جميع جوانب حياتهم اليومية، بدءًا من الطعام والملبس، مرورًا بالرعاية الصحية وتوفير الأدوية، وصولًا إلى التعليم وتكاليف الزواج ومستقبل أبنائهم.
في ظل هذه الأوضاع المأساوية، تتجه أصابع الاتهام إلى سياسات رئيس النظام عبد الفتاح السيسي، الذي يحمّله المواطنون مسؤولية ما آلت إليه أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية، ويأتي ذلك وسط حالة من التكتم الحكومي بشأن النسب الحقيقية للفقر، في بلد تجاوز عدد سكانه بالداخل 106 ملايين نسمة.
وصلنا حد التسول
سامية، (59 عاما) تقف في طابور ممتد في صفوف النساء وبجوارها صف أطول من الرجال، أمام شباك مكتب التأمينات الاجتماعية بإحدى مدن الدلتا، تقول: لم يعد أمامي إلا أن أشحت.
وتضيف: توفي زوجي (61 عاما) قبل شهرين، وأقيم في منزل صغير غير مكتمل البناء تركه لي والدي المتوفي، منذ عامين، وبينما كان زوجي يعمل في إحدى شركات القطاع الخاص مدة 7 سنوات بمدينة العبور الصناعية بالقاهرة، فوجئت بعد وفاته أنه ليس له معاش، لأن الشركة لم تؤمن عليه إلا 3 شهور فقط قبل بلوغه سن 60 عاما.
وتوضح: لا أجد سبيلا كي أعيش، وحاولت العمل في ذات الشركة ولم يفلح المسعى الذي حاول فيه بعض زملائه، لكن نصحني البعض في السعي للحصول على معاش والدي المتوفي، ومطلوب مني أوراق كثيرة جدا ومبالغ مالية كبيرة على تلك الأوراق لكي احصل في النهاية على معاش نحو 1500 جنيه، لا يغنيني عن سؤال الناس، خاصة وأنني مريضة سكر وضغط وليس لي علاج من التأمين الصحي.
حلم الفينو بالنوتيلا
وفي أحد الأسوق الأسبوعية، تقف سيدة ثلاثينية، تبدو على ملامحها علامات الجمال الريفي الكامن خلف ملابس محتشمة، أمام بائع “مناخل” الدقيق و”غرابيل” القمح والأرز، الدائرية المصنوعة من الخشب وتتنوع بين السلك الواسع والحرير الضيق.
تقول: جئت أبحث عن المناخل والغرابيل، التي اختفت باعتماد الناس على شراء الخبز الجاهز وترك صناعة الخبز البلدي بالأفران الريفية، لكي أخبز للناس مقابل أجر يبلغ 300 جنيه لعمود العيش، وذلك قبل أن أنخل الدقيق بالمنخل الحرير، وذلك قبل أن أنقي القمح والذرة والحلبة مواد صناعة الخبز بالمنخل السلك.
وتواصل: لم يعد أمامي إلا مساعدة زوجي، لتربية أبنائي، فعمله في مجال المعمار لم يعد يكفي، ولأنه كلما تجمع لدينا مبلغ من المال ضاع مع محاولاته السفر للخارج، ولا نملك مع هذا الغلاء فرصة شراء أية احتياجات لبناتنا الثلاثة بالمرحلة الابتدائية والإعدادية، الذين يحلمون كل صباح برغيف عيش فينو به جبن أو لانشون أو بيض أو نوتيلا مثل زملائهم، بل إننا لا نملك أن نعطي كل واحدة منهن 10 جنيهات لتشتري 2 صاندويتش طعمية أو فول.
لا بروتين سوى البساريا
وبينما يخرج محمود (أربعيني)، كل صباح للعمل مرتادا توكتوك نصف عمر يتعطل أغلب الأيام، تخرج زوجته، للعمل في الحقول لجني البرتقال في الشتاء لقاء 30 جنيها تعود بهما إلى السوق لشراء خضروات أو كيلو سمك من البساريا الأقل سعرا (30 جنيه) والذي يمثل لهم مصدر البروتين الوحيد، لتعود سريعا إلى بيتهما قبل عودة أبنائهما الأربعة من المدرسة، حسبما تقول الزوجة.
وتضيف: عندما أعود في سيارة أجرة إلى بيتي تتأف النساء ويتأفف الرجال من رائحة السمك المنتنة، ولكني لا حيلة لي سوى الصبر والعمل مع زوجي، حتى نستطيع أن نكفي أبناءنا عيش حاف، ونكفيهم أجر الدروس الخصوصية، حيث نحرص على تعليمهم ولكن لن نستطيع إدخالهم المدرسة الثانوية وسنكتفي بلا شك بتعليمهم في المدارس المتوسطة الصناعية أو التجارية.
وألمحت إلى أن الغلاء أتعبنا، ولم يعد هناك مصدر دعم حكومي لنا سوى رغيف الخبز الرديئ الذي يرفضون أكله أحيانا، مع تراجع التموين الذي لا يكفي الزيت والسكر منه الشهر ونضطر لشرائه بأسعار لا نتحملها.
عقاب حكومي
تتزامن تلك الأوضاع مع توجه حكومي لاستبدال الدعم العيني أو التموين الحالي الذي يحصل عليه الفقراء والمكون من زيت وسكر ومكرونة وأرز، بالدعم النقدي، وهو ما يتخوف منه المصريون من أن يكون نهاية للدعم، كما يؤكد خبراء أنه إحدى توجيهات صندوق النقد الدولي، بجانب رفع الدعم عن الكهرباء والوقود، ورفع أسعار جميع السلع والخدمات.
وعاود مجلس النواب المصري الاجتماع الاثنين، بعد عطلة امتدت لأسبوعين، ليناقش مشروع قانون “الضمان الاجتماعي والدعم النقدي”، الذي أقر نوابه بالفعل 22 مادة من أصل 44 مادة، وسط رفض خبراء اقتصاد وسياسيين معارضين، بحسب نشرة “إنتربرايز” الاقتصادية.
البنك الدولي وحد الفقر
ويؤكد خبراء اقتصاد مصريين أن الحكومة المصرية لا تعترف بمعدلات الفقر الحقيقية في مصر، وتصر على إخفاء النسب الحقيقية لنتائج بحث الدخل والإنفاق، وتصدر فقط نسبا قديمة لا تتسق مع معدلات التضخم وارتفاع الأسعار والغلاء الذي وصلت إليه البلاد بالأعوام الأخيرة.
وعبر صفحته بـ”فيسبوك”، أشار الباحث إلهامي الميرغني، إلى أن البنك الدولي عدل حساب حد الفقر العالمي، موضحا أن البنك كان في السنوات الماضية يحسب خط الفقر بحوالي 2.15 دولار يوميا، أي 107.5 جنيه يوميا، على أساس سعر الدولار 50 جنيه، وبذلك يكون الدخل الشهري 3.225، وكل ما يقل دخله الشهري عن هذا الرقم يعد من الفقراء.
وبين أن البنك الدولي قام بعمل حسابات جديدة، احتسب فيها خط الفقر بنحو 6.85 دولار يوميا أي 342.5 جنيه يوميا، وبذلك فإن كل من يقل دخله الشهري عن 10.275 جنيه شهريا فهو فقير، بمعدلات حساب البنك الدولي.
وتابع متسائلا: فما بالنا بالأجراء الذين لا تزيد أجورهم الشهرية عن 3 آلاف جنيه، وأصحاب المعاشات الذين تقل معاشاتهم الشهرية عن 2000 جنيه، أي 19.4 بالمئة فقط من حد الدخل الذي حدده البنك الدولي”، مبينا أن “هذا للفرد، ما يعني أنه لو هناك أسرة من 4 أفراد يصبح 41.100 جنيه، ولو 5 أفراد يصبح 51.375.
وأكد أنه منذ العام 2019، لم تنشر مصر نتائج بحث الدخل والانفاق؛ بل وتدخلت جهات أمنية لعدم نشر نتائج بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك لعام (2021/2022) والذي كان سينشر عام 2023 عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء، أي الجهاز الحكومي للدولة.
هل معدل الفقر الجديد الذي اعتمده البنك الدولي ينطبق على حالة مصر؟، قال إن البنك الدولي كان يستخدم مقياسا للفقر والفقر المدقع منذ عام 1990، ثم استحدث مقياسا بالعام 2015، ثم استحدث مقياسا جديدا بالمقارنة مع الدول ذات الدخل المتوسط، ومنذ سنوات صرح بأن 65 بالمئة من الشعب المصري يقع تحت خط الفقر.
وأكد الميرغني، أن البنك الدولي هو أحد أسباب أزمة مصر الاقتصادية وإغراقها في الديون، ملمحا إلى أن رفع نسبة الفقر يعني اغراقنا في مزيد من الديون.
وبحسب صفحة مدونات البنك الدولي، فإن خط الفقر البالغ 6.85 دولارات هو خط فقر مطلق، يجسد هذا التعريف الموسع للفقر، ويساعد على تقديم صورة أكثر صلة بالفقر في المزيد من المناطق.
وأضاف البنك أن التركيز الجديد على خط الفقر البالغ 6.85 دولارات يمثل عددا هائلاً من السكان، وحاجة أكثر إلحاحا لمكافحة الفقر العالمي وبناء القدرة على الصمود في عالم أكثر عرضة للمخاطر المناخية والاقتصادية مما كان عليه قبل بضع سنوات.
وأكد أن توسع تعريف الاحتياجات الأساسية إلى ما هو أبعد من الغذاء والملبس والمأوى، وأصبح يشمل الآن أيضا النظام الغذائي الصحي، والخدمات الصحية جيدة المستوى، والاتصال بالإنترنت، والحصول على الكهرباء، والتعليم، على سبيل المثال لا الحصر.
60 بالمئة يصارعون
وفي تعليقه على أوضاع المصريين المذرية مع الفقر، وما يكشفه سقف خط الفقر الجديد الذي أقره البنك الدولي عن فشل الحكومة المصرية وغياب الشفافية وعدم الإفصاح وتراجع تداول المعلومات، تحدث المستشار السياسي والاقتصادي الدكتور حسام الشاذلي.
وقال: لابد لنا أن نعرف أن أحد أكبر مشاكل الحكومات المتتابعة في مصر هي قصور الشفافية أو انعدامها؛ ولذلك يصعب التخطيط للمستقبل بدون دراسة الماضي أو التعلم من أخطائه.
الشاذلي، الذي يرأس جامعة كامبردج المؤسسية بسويسرا، أضاف: وحقيقة الأمر أن التحديد الجديد لسقف الفقر عن طريق البنك الدولي، يتماشى مع متطلبات المرحلة الجديدة وزيادة نسبة التضخم، ومع أهداف الحكومات المتحضرة بتحقيق حياة كريمة لمواطنيها حتى هؤلاء الذين يحصلون على حد أدنى للدخل.
ولفت إلى قول المستشار الألماني أولاف شولتس، الاثنين لحزبه ” الديمقراطي الاجتماعي”، إنه طالما يذهبون للعمل فواجب على ألمانيا أن توفر لهم حياة كريمة فألمانيا ليست فقط الأغنياء.
وعن مصر قال الشاذلي: أما في مصر فأكثر من 60 بالمئة من الشعب يصارعون الحياة بسبب فحش غلاء الأسعار والتضخم الذي ليس له نهاية، وبات غالبية المصريين يبحثون عن وظيفة ثالثة، بعد أن انخفضت مؤشرات جودة الحياة بصورة مرعبة وصار الناس يعدلون من نمط حياتهم الغذائي بتقليل أكل اللحوم أو الكف عنها مما يعكس أي نوع من الحياة يعيشون.
وأوضح أنه حسب تقرير صحيفة (الغارديان) الأخير، فإن نسبة الفقر في مصر تعدت 30 بالمئة حسب آخر الإحصائيات الرسمية مع 60 بالمئة من الفئات المعرضة أن تنضم حسب نفس التقرير، والتي هي أرقام أقل من الواقع بكثير، ولكنها تؤكد على ضياع جودة الحياة في خضم زيادة الأسعار.
ومضى يقول: ويبقي السؤال، هل المنهج الاقتصادي المصري يلبي متطلبات الحالة الاقتصادية المصرية مع كون مصر ثاني أكبر دولة مستدينة من صندوق النقد الدولي، بإجمالي 13.5 مليار دولار؟.
وختم حديثه مؤكدا أن الإجابة هي: (لا)، حيث أن الكارثة الاقتصادية المصرية مرتبطة بحل سياسي شامل، وإصلاحات اقتصادية جوهرية تركز على بناء اقتصاد حر، وتركز على صناعات الإنتاج والتكنولوجية الرقمية، وتتحرر من قيود صندوق النقد الدولي، وتشارك في تحالفات اقتصادية مثمرة، وغير مستغلة، وبدون ذلك فلن يكون هناك حلول مجدية.
ينطبق على مصر
وقال الباحث المصري في الملف الاقتصادي حسن بربري: يظهر بتوقيت إصدار تقرير البنك الدولي حول معدلات الفقر والفقر المدقع قانون الضمان الاجتماعي والتحول للدعم النقدي الذي تطرحه الحكومة المصرية.
القيادي في حزب “التحالف الشعبي”،أضاف: أن القانون الجديد عرف خط الفقر القومي وخط الفقر المدقع؛ وبناء عليه قامت فلسفته التي تحاول بشكل أساسي تحويل الدعم السلعي الذي يعتمد عليه جزء كبير جدا من الشعب لدعم نقدي غير محدد.
وأوضح الناشط العمالي، أن تقرير البنك الدولي، أشار إلى أن الدول متوسطة الدخل، ومنها مصر المصنفة وفقا للبنك كدولة متوسطة الدخل، يشير هنا لأزمة على مستوى الاقتصاد، كون هذا التصنيف جعل مصر دولة غير منخفضة الدخل، وبالتالي لا يمكننا اللجوء لفكرة إسقاط ديون خارجية.
وبين أن تصنيف مصر كدولة متوسطة الدخل أقصى ما يمكننا الحصول عليه هو التوسع في الاقتراض، وهو ما أصبح صعبا مع تقرير لجنة داخلية للبنك الدولي أكد أن مصر اقترضت بأكبر من حصتها بـ4 أضعاف المقرر لها وفقا لقواعد الاقتراض من صندوق النقد.
ولفت إلى أن ذلك يتزامن مع قانون الضمان الاجتماعي الذي تحاول الحكومة تمريره على أنه قانون الرحمة والشافية الذي يقضي على الفساد بعملية الدعم السلعي، في حين أن الحقيقة أنه يتخلص من عبئ الدعم على حساب دفع فوائد وأقساط الديون من موازنة الدولة، وأن ضمن شروط صندوق النقد التخلص من دعم الفئات الفقيرة والمهمشة.
وأشار إلى أنه في القانون تم وضع تعريف لخط الفقر القومي، وفقا لحسبة معينة، وفي معادلة تقترب من حسبة الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء التي نشرت آخر معلوماتها في هذا الإطار عن عامي (2019/2020)، وتوقفت منذ ذلك الحين، كما ذُكر ببعض الأوساط أنه تم إخفاء المعلومات منذ ذلك الحين وحتى (2023/2024)، عمدا.
وأكد بربري، أن خط الفقر في مصر مختلف عن خط فقر الدول الفقيرة أو منخفضة الدخل، مشيرا إلى اعترافات محلية عن خطوط الفقر لدينا من رئيس الجمهورية الذي صرح في تشرين الأول/ أكتوبر 2022، بأن الأسرة المكونة من 4 أفراد يكفيها حاجاتها الأساسية 10 آلاف جنيه، لكنه في شباط/ فبراير 2024، أقر حد أدنى للأجور بـ6 آلاف جنيه، ولدينا أصلا مشاكل في تطبيقه.
وأشار الباحث المصري إلى أن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء أقر عام 2020، أن الحد الأدني لدخل المواطن لأسرة من 4 أفراد 10.375 جنيه، وهو رقم أعلى من خط الفقر الذي تعمل عليه الحكومة.
وخلص للقول: وهذا يؤكد تغاضي حكومي عن رفع مستوى معيشة المواطنين، وسط أزمة اقتصادية طاحنة تدور بدائرة مفرغة دون حلول، ورغم وعود متكررة حول أزمة تنتهي وانفراجة قادمة؛ لكن الأوضاع تشير لمزيد من الاقتراض والفقر والتغول على حقوق العمال والفلاحين وزيادة أسعار السلع والخدمات دون ضابط.