هل يقبل الأكراد العمل كرأس حربة للكيان الإسرائيلي في مواجهة تركيا؟
أولى التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية الإسرائيلي الجديد جدعون ساعر عقب توليه منصبه جاءت بمنزلة خريطة طريق للنهجين السياسي والدبلوماسي اللذين ستسير عليهما دولة الاحتلال من الآن فصاعدا لمواجهة إيران وتركيا تحديدا، لما تسببانه لها من ضغوط تستنزف جزءا كبيرا من قدراتها العسكرية، وإمكاناتها السياسية والدبلوماسية، وتعيق خططها التوسعية وإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط في ثوبه الجديد.
الخطير في تصريحات ساعر هو حديثه عن رؤيته لعلاقات حكومته بالأقليات في منطقة الشرق الأوسط، الذين حددهم بالأكراد والدروز، واصفا إياهما بأنهما ضحية القمع والعدوان، وبأنهما “الحليف الطبيعي” الذي يجب على إسرائيل تعزيز علاقاتها به، والعمل على استثماره لتقوية نفوذها، وزيادة حجم هيمنتها على دول المنطقة.
الوزير كشف بوضوح عن وجود تاريخ طويل من العلاقات الإيجابية المستمرة التي تربط دولته منذ إنشائها بالأكراد، وأنه يتطلع إلى زيادة حجم هذه العلاقات خلال الحقبة المقبلة بما يتواءم والتطورات في المنطقة، وصولا لتحقيق ما سماه “توسيع دائرة السلام والتطبيع”، مؤكدا وجود مصالح مشتركة بين اليهود والأكراد خاصة، باعتبارهما “أقليات تواجه الاضطهاد على أيدي نفس الأعداء”، الذين حددهم بالإيرانيين والأتراك.
وهي التصريحات التي أشارت بكل وضوح إلى وجود مخططات لدى دولة الكيان الإسرائيلي تستند في جملتها على معتقدات وأفكار مستلهمة من الفكر الديني واليمين القومي اليهودي للتلاعب بأحلام الأقليات الموجودة في المنطقة، والسعي لإدماجها في جبهة تكون رأس حربة بيديها توجهها إلى صدور من تصنفهم أعداء لها.
وهم بالطبع أولئك الذين يقفون حجر عثرة ضد طموحاتها، وعقبة كأداء تحول دون تحقيق رغبتها في التمدد جغرافيا وسياسيا على أكبر مساحة ممكنة من الشرق الأوسط، لتكون لها الكلمة العليا، واليد الطولى في المنطقة دون منافس أو رادع.
تصريحات الوزير الإسرائيلي وإعلانه رسميا استخدام إسرائيل للأكراد، وتوظيف أزمتهم السياسية، ومداعبة أحلامهم بالاستقلال عن الدولة التركية، وإعلان دولة كردستان المستقلة، يمكن اعتباره إعلان حرب من إسرائيل على تركيا بصورة غير مباشرة، لتصفية حساباتها معها، وتهديد أمنها القومي.
وذلك بعد أن اتسع نطاق الخلاف بينهما، وازدادت أسباب الفرقة، وأصبح من الصعب تجاوز هذه الأزمة التي قضت على أي أمل في إمكانية رأب الصدع بين البلدين، والعودة بعلاقاتهما إلى سابق عهدها في ظل استمرار عمليات الإبادة الممنهجة التي يشنها الكيان الصهيوني على غزة، وحربه الموسعة على لبنان، واستهدافه لجزء كبير من الأراضي السورية.
تركيا من جانبها أدركت منذ وقت مبكر طبيعة المخططات الصهيونية ضد مصالحها -حتى قبل اندلاع طوفان الأقصى بسنوات- وتعمل منذ ذلك الحين بكامل طاقتها لعرقلة تنفيذ هذه المخططات، والتصدي لها بكل قوة وحزم، وفي هذا الإطار اتخذت عدة خطوات استباقية على الصعيد الأمني والسياسي والدبلوماسي.
أمنيًّا وسعت تركيا نطاق عملياتها العسكرية ضد العناصر المسلحة في كل من جبال قنديل بشمال العراق، وشمال شرق سوريا، وهي التحركات العسكرية التي بدأتها عام 2016 بعملية درع الفرات، و2018 بعملية غصن الزيتون، وعام 2019 بعملية نبع السلام، بالاشتراك مع قوات سوريا الديمقراطية التابعة لفصائل المعارضة السورية.
وأعلنت نيتها زيادة حجم المساحة الجغرافية التي تشملها المنطقة الآمنة على خط الحدود المشتركة بينها وبين الدولة السورية في جنوب البلاد، لإخراج جميع العناصر الانفصالية المسلحة منها، وضمان منع عودتهم إليها مجددا.
كما عملت على تطوير قدراتها العسكرية، من خلال تنويع مصادر أسلحتها، خاصة بعد العقوبات التي فرضتها عليها الولايات المتحدة الأمريكية عقب شرائها منظومة صواريخ إس-400 الدفاعية من روسيا، كما استبعدتها من المشاركة في برنامج تصنيع طائرات إف-35 المقاتلة، وحظرت عليها شراءها.
وسعت للارتقاء بصناعاتها الدفاعية، لتخفيض اعتمادها على الخارج فيما يخص احتياجاتها الدفاعية، وصولا إلى الاستقلال التام في جميع ما يخص القطاع العسكري، حيث تقوم حاليا بتصنيع طائرات الهليكوبتر، إلى جانب الطائرات المسيّرة التي اكتسبت شهرة عالمية، وأصبحت محل طلب العديد من دول العالم بعد أن أثبتت نجاحها، وقدرتها على تنفيذ المهام المنوطة بها.
وردًّا على امتلاك إسرائيل ما يعرف بـ”القبة الحديدية” قررت أنقرة العمل على امتلاك منظومة متطورة لدفاعها الجوي متعددة الطبقات، أطلقت عليها اسم “القبة الفولاذية”، وفي هذا الخصوص قال الرئيس أردوغان “إذا كان لديهم قبة حديدية، فسيكون لنا قبة فولاذية”، إضافة إلى خططها الرامية لزيادة قدراتها من الصواريخ البعيدة المدى.
وسياسيا تعمل أنقرة بكل جدية من أجل إعادة علاقاتها الطبيعية بدمشق، مستعينة لتحقيق هذا الأمر بتأثير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على قرارات نظيره السوري بشار الأسد، بهدف وضع خلافاتهما جانبا، والتعاون معا للتصدي لمحاولات إسرائيل الرامية لاقتطاع أجزاء من المساحة الجغرافية للدولة السورية لإقامة كيان سياسي مستقل للأكراد بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبار ذلك خط دفاع أول عن أراضيها بالأناضول.
كما تهدف من وراء هذه المصالحة إلى إتاحة الفرصة أمام إمكانية تشكيل تحالف أمني سياسي يضمهما والقاهرة لمواجهة خطط تل أبيب التوسعية على حساب الدول الثلاث، كما هو معلن في الخرائط التي يستخدمها دائما بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي.
وتطمح أنقرة إلى التفاوض مع الإدارة الأمريكية الجديدة -بعد فوز رونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية- من أجل سحب القوات الأمريكية من الشمال السوري بما يتيح لقواتها التوغل بعمق أكبر، واستئناف عملياتها العسكرية الهادفة إلى تنظيف المنطقة من العناصر المسلحة دون المساس بأي من الجنود الأمريكيين الموجودين بها، منعا لحدوث أزمة دبلوماسية بين البلدين.
وذلك ضمان الحد من الدعم العسكري واللوجستي المقدم من واشنطن لوحدات حماية الشعب التي يندرج تحتها عناصر حزب العمال الكردستاني، المصنف جماعة إرهابية من جانب تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
أما على الصعيد الدبلوماسي فتقود تركيا حملة أممية تهدف إلى تقويض قدرات دولة الاحتلال، عبر منع تصدير السلاح بأنواعه إليها، وهي خطوة فعالة يمكن أن تؤدي إلى إجبارها على وقف جرائمها التي تقوم بها ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني، وقد نجحت حديثا في الحصول على موافقة 52 دولة من أعضاء الأمم المتحدة، من ضمنها دولتان دائمتا العضوية في مجلس الأمن، هما روسيا والصين، إلى جانب منظمتين دوليتين.
كما تقود حملة أخرى لحث دول العالم الإسلامي على تنحية خلافاتهم، والتحرك كتلةً واحدة للوقوف في وجهه الهمجية الصهيونية، والعمل على عزل الكيان الإسرائيلي دوليا، ووقف كافة أشكال التعاون معه لزيادة الضغوط عليه وإجباره على الانصياع للقانون الدولي، ووقف مذابحه وحرب الإبادة التي يقوم بها على مرأى ومسمع من العالم أجمع.
والانضمام إلى الدعوى القضائية المرفوعة من جانب جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، بهدف إدانة قياداتها السياسية والعسكرية والسماح بمحاكمتهم بوصفهم مجرمي حرب، وحث المزيد من الدول على الاعتراف بالدولة الفلسطينية، لإفساح المجال أمام تطبيق حل الدولتين.
مع كافة هذه التحركات التي تبدو تركيا فيها وكأنها تسابق الزمن لسحق محاولات التمدد الصهيوني، وتقسيم المنطقة، يظل السؤال المحيّر هل يقبل الأكراد التحالف المعلن مع الاحتلال الإسرائيلي، ومد أيديهم إليه وتعزيز علاقاتهم به، والوقوف إلى جواره وهو يوجه فوهات بنادقه إلى إخوانهم من المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين، كما فعل دروز فلسطين المحتلة؟
وهل يساهمون بوعي كامل في تحقيق حلم إسرائيل الكبرى، لمجرد وعد بالمساعدة على تأسيس دولة كردستان المستقلة في شمال شرق سوريا؟! وهو وعد قد لا يختلف عن غيره من جملة الوعود التي ظل الغرب يقطعها للأكراد بدءا من معاهدة سيفر الموقعة عام 1920، وهي وعود متتالية لم يبصر جلّها النور حتى الآن.