جامعات بدوية متنقلة في موريتانيا قاومت الاستعمار ومنها تخرج علماء أناروا الشرق وحفظوا للأمة تراثها
لم يقض عليها التعليم المعاصر بمدارسه وجامعاته ومناهجه، بل ظلت تقف شامخة تنشر العلم ويتخرج منها فطاحل العلماء والحفاظ: إنها المحاظر، أو المدارس التقليدية، منارة التعليم الأصلي الموريتاني، التي تعدّ من أبرز وأقدم المؤسسات التعليمية في العالم الإسلامي.
وقدم الباحثون الموريتانيون عدة تعريفات للمحظرة الموريتانية أجمعها التعريف الذي يرى أن المحظرة الشنقيطية جامعة شعبية، بدوية متنقلة، تلقينية، فردية التعليم، طوعية الممارسة» وكذا التعريف القائل «بأن المحظرة جامعة شعبية تستقبل كل من يرد عليها، من جميع المستويات الثقافية، والفئات العمرية والجنسية والاجتماعية.
جامعات متنقلة
وُصفت المحاظر الموريتانية بأنها جامعات متنقلة على ظهور الإبل، بسبب أن علماء موريتانيا التقليديين دأبوا على السكن بالبوادي والأرياف بعيدا عن المدن، فكانوا يتنقلون خلف مواشيهم ينتجعون المراعي حيثما كانت، ويحملون كتبهم وألواحهم ومحابرهم على ظهور الجمال.
وتنتشر المحاظر في مختلف أنحاء موريتانيا، خاصة في المناطق الريفية، وتتميز بطريقة تدريس تعتمد على الحفظ والفهم المتعمق للعلوم الشرعية.
وتشمل المناهج الدراسية في المحاظر الموريتانية العلوم الإسلامية الأساسية، كالقرآن الكريم وعلومه، والحديث الشريف، والفقه المالكي، إضافة إلى النحو والصرف والبلاغة والأدب.
ويُعتبر طلاب المحاظر من الأكثر تميزاً في حفظ القرآن والأحاديث النبوية، ويتم تحفيظهم القرآن كاملاً عن ظهر قلب، وهو ما يكسبهم تقديراً واسعاً في المجتمعات الإسلامية.
وتتولى المحاظر أيضاً دوراً ثقافياً واجتماعياً في نشر القيم الإسلامية وإعداد أجيال من العلماء والشيوخ الذين وصل صيتهم إلى الشرق، كما ساهموا في نشر الإسلام وتعاليمه في موريتانيا وغرب إفريقيا بشكل عام، وفي نشر المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية في المنطقة، إلى جانب التصوف السني.
البساطة والمرونة
ويمتاز نظام التعليم في المحاظر الموريتانية بالبساطة والمرونة، حيث لا يعتمد على الأساليب الحديثة بل على الطرق التقليدية، ما يسمح للطلاب بالتفرغ التام للعلم الشرعي؛ وبفضل هذا الدور التعليمي الرائد، اكتسبت المحاظر الموريتانية شهرة كبيرة في العالم الإسلامي، وأصبحت موريتانيا تُعرف ببلد «مليون حافظ» ما جعلها مقصداً للراغبين في التعمق في العلوم الإسلامية.
وقد ظلت هذه المؤسسات ذات الوظائف الاجتماعية والثقافية والتربوية، تنشر المعارف العربية والإسلامية بمختلف فنونها في ربوع الصحراء؛ وما تزال المحظرة تضطلع بهذه المهمة في نقاط عديدة من موريتانيا مستقبلة طلابا موريتانيين وغير موريتانيين يفدون إليها من كل فج رغم شح مواردها وقسوة ظروف الدرس بها.
وتنقسم المحاظر الموريتانية إلى محاظر جامعة تدرس فيها جميع العلوم الشرعية واللغوية، ومحاظر متخصصة تركز على الفقه، ومحاظر قرآنية تركز على تحفيظ القرآن.
النشأة والبدايات
لا يستبعد المؤرخون والباحثون أن تكون المحاظر قد تأسست باكرا مع دخول الإسلام إلى هذه المنطقة أواسط القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي.
ويرى بعض الباحثين نقلا عن الروايات الشفهية المتداولة أن البذور الأولى للمحاظر الموريتانية هي مدارس أسسها فقهاء استقدمهم معه الأمير اللمتوني أبا بكر بن عمر بعد انفصاله عن الأمير يوسف ابن تاشفين بالمغرب وعودته إلى الصحراء الموريتانية.
ويقول الأستاذ الخليل النحوي في كتابه «بلاد شنقيط-المنارة والرباط» متحدثا عن نشأة المحاظر النشأة الفعلية للمحاظر بصحراء الملثمين، تعود إلى ظهور الدعوة المرابطية بها، إذ كان العلم حضريا في عهد المرابطين وقرونا من بعدهم، ذلك أن حواضر مثل أوداغست وولاته وتيشيت ووادان وشنقيط كانت مراكز علم مكينة احتضنت المؤسسات المحظرية الأولى في هذه البلاد السائبة.
لكن سرعان ما حكمت الظروف على المحاظر الموريتانية بالانتقال إلى الأرياف تبعا لنمط العيش السائد فتحولت المحظرة إلى مؤسسة تربوية بدوية تغطي المجال الشنقيطي الفسيح من ضفاف المحيط الأطلسي إلى أزواد، ومن نهر السنغال إلى الحدود الجزائرية والمغربية.
الانتشار والرسوخ
وفي أرجاء الصحراء الموريتانية المترامية الأطراف وعلى ضفاف المحيط والنهر، تكاثرت المحاظر وتشعبت وأصبحت بمثابة «جامعات» بدوية متنقلة على ظهور العيس تعرف نوعا من الإبداع والإنتاج العلمي والأدبي في محيط بدوي لا عهد له بالدولة المركزية ولا وجود فيه للعمران.
وقد لاحظ بعض الدارسين هذه الخصوصية التي ميزت سكان الصحراء الموريتانية عن غيرهم من سكان المنطقة حين تحدثوا عن مظاهر من الثقافة العالمة في هذه البادية.
يقول الرحالة الفرنسي كامي دولس إن البيضان من قبائل العرب، يتخذون من خيامهم أكاديميات حقيقية.
ويمضي هذا الرحالة الذي زار المنطقة سنة 1887 قائلا «إن جميع هؤلاء البداة تقريبا يتعاطون كتابة العربية» مؤكدا أن المعرفة والذكاء اللذين يميزان هؤلاء البدو يبلغان درجة من التطور تعد مفارقة لما يطبع المسلمين المقيمين بأفريقيا الشمالية.
وبصمود المحاظر الموريتانية ووفرة عطائها المعرفي، يتأكد أن البادية ليست دائما رديفة الجهل والأمية، كما أن المدينة لا تساوي بالضرورة الازدهار المعرفي.
ميزات وسمات
تميزت المدارس التقليدية في موريتانيا بميزات عدة أبرزها الحرية التي يتمتع بها الطالب المحظري، وبحرية اختيار المحظرة التي سينتسب إليها، والشيخ الذي سيدرس عنده، والمادة والمتن اللذين يرغب في دراستهما، والفترة الزمنية الملائمة لدراسته.
ومن سمات المحظرة الموريتانية المساواة بين الطلاب حيث تذوب فيها الفوارق والأعراق.
ويعود ذلك لعدم اعتبار الفوارق الاجتماعية، وفوارق السن؛ فالرجل الطاعن في السن قد يدرس مع الشباب، والشاب اليافع قد يتولى تدريس من هم أسن منه. ومن ميزات المحظرة الموريتانية عدم الاهتمام بالمستوى المادي، إذ لا فرق بين غني وفقير، كما أن من ميزاتها المجانية فالانتساب إليها لا يتطلب رسوما: فالميسورون يدرسون على نفقة ذويهم، والمعدمون ينفق عليهم شيخ المحظرة، أو بقية أهل الحي، أو يتقاسمون مع زملائهم الميسورين.
المهمة الأساسية
تعتبر الوظيفة الأساسية لهذه المدارس هي نشر العلوم والأخلاق الإسلامية بما يقتضيه ذلك من التركيز على ما يعرف بعلوم الغاية التي تشمل القرآن، الفقه، والعقيدة، والحديث، غير أن استيعاب هذه العلوم يستدعي بالضرورة معرفة بعلوم الآلة وخاصة العلوم اللغوية التي يتوقف على معرفتها فهم النص الديني من قرآن وسنة.
وقد أدرك الموريتانيون ما لعلوم الآلة من قيمة في استيعاب العلوم الشرعية، ففضلوا الاشتغال بها على الاشتغال بالعبادة.
وحفظت هذه المحاظر العلوم العربية والإسلامية في الصحراء وخرجت علماء شهد لهم الآخرون بالتميز والنبوغ ولا زالت هذه المحاظر تعطي وتنتج إلى الآن.
يقول الباحث أحمد سيلوم عبد الرزاق إن المناهج الدراسية العربية في ظل الإسلام قامت على التلقي من أفواه الرجال، وتستمد هذه المناهج أصولها من أخلاقيات الإسلام الذي ربى الناس منذ نزول الوحي على طلب العلم من أهله، والاستزادة منه، والإخلاص في ابتغائه، والصدق في رواية الخبر وإسناده إسنادا كاملا إلى مصدره، ولذلك صارت الرواية الشفهية أساس الحركة العلمية العربية خصوصا أن وسائل التدوين كانت نادرة الوجود.
وقد نشأت أصول هذه الرواية وتطورت بتطور الحركة العلمية، فكانت هذه المرحلة تزداد وتنمو في مجالس العلم وحلقاته التي كانت تحتضنها المساجد قبل وجود المدارس.
أدوار وأسرار
يتميز التعليم التقليدي في تلك المراحل بظاهرتين بارزتين هما شعبيته وديمقراطيته حيث كانت مراكز التعليم جزءً من مؤسسة المجتمع، ووظيفة جماعية من وظائفه ينتدب لها في كل مجتمع.
أما الظاهرة الثانية، كما يقول الباحث خليل النحوي، فهي إلزاميته، بمعنى أن تعليم القراءة والكتابة كان مدخلا، بل هو المدخل الوحيد إلى تعليم الدين، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي للتمكن من القيام بالواجبات العينية المفروضة على كل مسلم، وتبعت هذا الإلزام مرونة اقتصادية وإدارية واجتماعية في فرض التعليم؛ فلم تكن هناك عوائق اجتماعية أو إدارية أو دينية دون تلقي التعليم في أي سن، أو في مواصلته في أي وقت ودون مقابل مادي مفروض ودون أي قيد يفضي إلى حرمان طالب العلم، فطلب العلم في حد ذاته قيمة اجتماعية يمجدها المجتمع.
وقد كانت لهذه المحاظر العلمية، يضيف الباحث، أدوار كثيرة قامت بها منذ نشوئها وحتى الآن، وتعززت هذه الأدوار عندما احتيج إليها، وذلك عند مجيء المستعمر إلى بلاد شنقيط فقامت هذه المحاظر بجهود جبارة في مقاومته، وتتمثل هذه الجهود أساسا في خدمة التراث الإسلامي من مختلف جوانبه.
كما أن للمحاضر الشنقيطية أدورا أخرى تمثلت في خدمة التراث العربي والإسلامي في موريتانيا بل وفي أنحاء عديدة من غرب افريقيا والعالم الإسلامي.
وقد ظلت هذه المحاضر تنشر المعارف العربية والإسلامية بمختلف فنونها في ربوع الصحراء ومنها في المناطق الأفريقية المجاورة وما تزال المحظرة تضطلع بهذه المهمة في نقاط عديدة من موريتانيا مستقبلة طلابا موريتانيين وغير موريتانيين عربا وأفارقة وأوروبيين في بعض الأحيان يفدون إليها من كل فج رغم قوة المنافسة بينها وبين المدرسة النظامية وشح مواردها وقسوة ظروف التدريس فيها.
النمط والمنهج
تعتمد المحظرة نظام التعليم الفردي، حيث يدير حلقات الدراسة وجلساتها في العادة شخص واحد هو «المرابط» أو «الطالب» شيخ المحظرة، وهو عادة رجل ذو بسطة في العلم مختص في بعض المعارف (الدينية واللغوية خاصة) أو موسوعي متبحر، شهد الناس علمه وعاينوا فضله فأقبلوا عليه يتعلمون منه، وإلى هذا الشيخ تنسب المحظرة فتعرف به أو بأسرته، وقد يكون للمحظرة عدة أساتذة، وذلك شأن محاظر بيوتات العلم الكبيرة إذا أقام رجالها في حي واحد.
وتقوم أصول مناهج الدراسة في المحاظر على التلقي من أفواه الرجال لا من بطون الكتب، ولذلك يحذرون من اعتماد الطالب على الكتب دون قراءتها على الشيوخ لئلا يضل عن سواء السبيل أو يفهم قولا على غير مراد قائله.
ويبدأ الدارس في المحاظر الشنقيطية أولا بحفظ القرآن الكريم، ثم بعد ذلك بتعلم ما يتعين تعلمه من أحكام الصلاة والطهارة وغير ذلك، ثم بعد ذلك يتوجه الطالب إلى تعلم اللغة العربية من نحو وصرف وعروض… وكذلك يقوم بحفظ الأشعار: كالمعلقات السبع أو العشر، وديوان الشعراء الستة الجاهليين، ثم بعد ذلك يتوسع في باقي العلم.
أما طريقة الدراسة، فيبدأ الطالب أولا بكتابة الدرس الذي يريد أن يدرس في لوح خشبي، ثم يقرؤه على الشيخ حتى يجيزه بالرواية حتى لا يحفظه بالغلط، ثم يقوم الطالب بحفظ هذا الدرس، ثم يأتي الطالب فيشرح له الشيخ الدرس شرحا وافيا، ثم بعد ذلك يذهب الطالب مع الطلاب للمذاكرة والمراجعة، ثم بعد هذا ينبغي للطالب أن يأتي للشيخ فيمتحنه في الدرس الذي حفظ، هذه هي الطرق التي يسلكونها في التعليم.
أدوات الدراسة
يستخدم طلاب المحاظر أدوات بسيطة أصيلة بينها لوح خشبي، ومحبرة، وقلم سيال، وحبر مصنوع من مشتقات الفحم والصمغ.
فاللوح هو بمثابة الدفتر، حيث تُكتب فيه الدروس المُراد حفظها، وعند حفظ الجزء المدروس يتم غسله بالماء وتجفيف اللوح لكتابة درس جديد؛ مع العلم أنه عادة ما يكون عدد الدروس المكتوبة في اللوح الواحد أربعة دروس، وفي كل يوم يُكتب درس جديد بعد أن يُمسح أقدم الدروس ليحل الدرس الجديد مكانه وهكذا دواليك، و يُستخدم كلا وجهي اللوح لكتابة الدروس، و لماء غسل اللوح مكانة كبيرة في نفوس الطلاب، حتى أن منهم يشربه التماسا للبركة، ويجب أن يُسكب المحو في أماكن طاهرة لأنه في نظرهم عبارة عن محو آيات قرآنية، كما أنه لا يجوز تخطي اللوح أو الجلوس عليه، ويعامل معاملة المصحف من حيث القدسية.
أما المحبرة (الدواية أو السمغة كما تسمى محليا) فهي دواة للكتابة على الألواح وتكون عادة من الحجر، وليس لها شكل محدد، غير أن أغلب أشكالها هي المستديرة والمستطيلة.
وتتم صناعة القلم السيال الذي تتم الكتابة به على الألواح من فروع شجر يعرف بالسبط بعد أن يُبرى بطريقة معينة.
صيانة التراث
تعد الوظيفة الأساسية لهذه المحاظر هي نشر العلوم والأخلاق الإسلامية ولذلك صرف شيوخ المحاظر هممهم للعلم ونشره في تلك الربوع، وفي سبيل تحقيق ذلك الهدف قاموا باستجلاب المتون من بلاد الإسلام المختلفة، وعني الطلاب بدراستها، والعلماء بالتعليق عليها واختصارها، ومحاذاتها بمصنفات منثورة، أو منظومة.
وهكذا كانت المحاظر الشنقيطية الحاضنة والحافظة لهذه العلوم المختلفة، وكان السبب الأساسي الذي دعا هؤلاء العلماء إلى التأليف هو تسهيل هذه المتون لطلاب المحاظر، ولذلك نجد أغلب هذه المؤلفات إما أن تكون شرحا لمتن أو نظما له أو استدراكا عليه.
قلاع قاومت الاستعمار
تصدت المحظرة الموريتانية بقوة للهجوم الاستعماري، وقاومته أشد مقاومة، وفي هذا الصدد يقول أحد الفرنسيين: «لقد انتصب في وجهنا عدو قديم وقوي هو تعليم المحاظر الذي يتطلب قهره تبني سياسات مدرسية حكيمة، وبذل مجهودات كبيرة».
وظلت المحظرة الموريتانية ولا تزال قلعة الثقافة الإسلامية في موريتانيا تنشرها وتدرسها وتقوم بالدفاع عنها؛ وبفضل التنشئة المحظرية وانتشار أطروحاتها في الأوساط العلمية امتاز الموريتانيون بالتشبث بقيم دينهم، والتمسك بموروثهم الثقافي والاعتزاز بتاريخهم وثقافتهم والاحتفاظ بهويتهم.
وقد ساعد الدرس المحظري وما يتطلبه من متون دينية وما يتحلى به القيمون عليه من أخلاقيات على حفظ وصيانة التراث العربي الإسلامي في هذه الثغور الشنقيطية المرابطة، هذا ما أكده الدكتور محيي الدين صابر المدير العام الراحل للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم حيث يقول: إن الثقافة العربية التي أُثرت عن المدن التاريخية الموريتانية إلى عهد قريب كفلت للتراث الإسلامي العربي البقاء والاستمرار من خلال المؤسسات التي ينتجها المجتمع الموريتاني سواء في المراكز العلمية المستقرة أو المتنقلة والذي يمثلها نظام المحاظر.
واعترف الفرنسيون أنفسهم، بنجاح المحظرة الموريتانية في تأدية رسالتها الحضارية وقيامها بواجبها حيث يقول أحد الفرنسيين الذين حكموا موريتانيا إبان الاستعمار: إن المحاظر قد تمكنت على العموم من الصمود في وجه الغزو الثقافي الأجنبي، واضطلعت برسالتها المتمثلة في صيانة تراث ثقافي يمثل بالنسبة لها مدعاة فخر واعتزاز.
الوقوف في وجه التوغل
هكذا كانت المحظرة الشنقيطية قلعة لمقاومة التوغل الاستعماري داخل موريتانيا، فاضطلع شيوخها وخريجوها من فقهاء وعلماء بدور كبير في التحذير من هذا الخطر المحدق، ودعوا إلى مواجهته بالوسائل المتاحة قبل فوات الأوان.
وقد قامت المحظرة الموريتانية عبر تاريخها الطويل بالمحافظة على الهوية العربية الإسلامية للمجتمع الشنقيطي فكانت قلعة حصينة لمقاومة الاستعمار بشتى الوسائل الثقافية والعسكرية والسياسية الأمر الذي بوأها مستوى السلطة التشريعية للمقاومة وأدى ذلك إلى تحصين معظم المجتمع من الغزو الثقافي المدمر، وقد تجسدت مقاومتها للاستعمار في عدة مجالات.
ففي المجال الثقافي، عملت المحظرة على نشر الثقافة العربية الإسلامية في ربوع البلاد كافة مما جعل المجتمع محصنا ضد الاستعمار، كما ساعدت في امتناع أغلب السكان عن المدرسة الفرنسية استجابة لدعوة شيوخ المحاظر إلى مقاطعتها، إضافة إلى إصدار الفتاوى الشرعية التي تحذر من «ثقافة المستعمر المسيحية التبشيرية» والتي توجب مقاومة الاستعمار بالسلاح.
وتنضاف لذلك، الدعوة إلى الجهاد مما أذكى روح المقاومة في نفوس الموريتانيين؛ وقد لقيت هذه الدعوة استجابة قوية من كل الموريتانيين سواء كانوا أمراء أو غيرهم، فكان الجهاد بهذا الاعتبار ثمرة من ثمار المحظرة.
وفي المجال السياسي نشر شيوخ المحاظر النصوص التي تحرم التعامل مع المستعمر مهما كانت طبيعته، مع الدعوة لمحاصرته اقتصاديا من خلال منعه من شراء المنتجات المحلية، إضافة إلى إلقاء المنشورات وتعليقها على المساجد لبث بغض المستعمر في نفوس الشناقطة.
رفض وصمود
واشتهرت المحاظر الموريتانية بدعم المترشحين المناهضين للاستعمار في أول انتخابات برلمانية سمح بها المستعمر حيث فاز السياسي الموريتاني الراحل أحمد بن حرمه بن بابانا بفضل ذلك الدعم، على منافسه الفرنسي رازاك في الانتخابات التي جرت سنة 1946؛ وفي ذلك يقول الأستاذ الخليل النحوي في كتابه المنارة والرباط «وما كان للتأثير الفرنسي في بلاد شنقيط أن يظل محدودا لولا جهاد المحضرة»؛ ويقول الفرنسي لكرتوا: لقد استطاعت المحاضر بوجه عام أن تصمد في وجه الغزو الثقافي الأجنبي وتؤدي مهمتها في صيانة ميراث ثقافي هو لها مدعاة فخر واعتزاز، فقد شكلت هذه المحاضر في عهد الاستعمار قلعة حصينة للصمود والمناعة الثقافية.
وشهد الدكتور محيي الدين صابر المدير السابق لمنظمة «آلكسو» للمحاظر الموريتانية بأدوارها العظيمة وذلك في قوله إن الثقافة العربية التي أُثرت عن المدن التاريخية الموريتانية إلى عهد قريب كفلت للتراث الإسلامي العربي البقاء والاستمرار من خلال المؤسسات التي ينتجها المجتمع الموريتاني سواء في المراكز العلمية المستقرة أو المتنقلة والذي يمثلها نظام المحاظر.