خليفة حفتر يستعد لغزو مدن الجنوب
تصاعدت مخاوف الدول الغربية من اهتزاز الاستقرار الهش أصلا في ليبيا، في أعقاب عودة العنف بين الفصائل الليبية المسلحة الجمعة الماضي، في مدينة تاجوراء، غير بعيد عن ضواحي العاصمة طرابلس. وتلقت البعثات الدبلوماسية معلومات مفادها أن القائد العسكري للمنطقة الشرقية اللواء المتقاعد خليفة حفتر ونجله صدام حفتر، الذي يقود قوات أبيه، يُخططان للاستيلاء على المنطقة الجنوبية، حيث اختفت مؤسسات الدولة أو تفككت، على امتداد السنوات العشر الأخيرة. وقد يكون حفتر الأب يعمل على تحقيق أمنيته بالسيطرة على العاصمة، والإطاحة بحكومة عبد الحميد الدبيبة، مثلما جرب ذلك مع الحكومة السابقة برئاسة فايز السراج في العام 2022 قبل أن يسحب قواته بعدما تكبدت خسائر كبيرة.
بيان خماسي
ومن علامات تلك الرغبة الجامحة، معاودة اللواء المتقاعد اللجوء للحل العسكري للمرة الثانية منذ تموز/يوليو الماضي، باستخدامه أسلحة متوسطة وخفيفة، ما أدى إلى وقوع ضحايا في صفوف المدنيين، بالإضافة إلى خسائر مادية. بهذه الخلفية يمكن قراءة البيان المشترك لخمس دول غربية رئيسية هي أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، التي عبرت عن خشيتها من «التحركات العسكرية المستمرة في جنوب غرب البلد» وهي المنطقة التي يبدو أن حفتر مُصمم على غزوها.
أكثر من ذلك يُفهم من الموقف المشترك للعواصم الغربية، أن لديها معلومات عن استعدادات عسكرية قد تُشعل نار الحرب مجددا بين جيش حفتر والميليشيات المسلحة التابعة لحكومة الوحدة الوطنية. وانطلاقا من خشيتها من انتشار الجماعات المسلحة والمهاجرين غير النظاميين في المناطق الحدودية السائبة، حض الغربيون «القوات الأمنية في الشرق والغرب» على ضبط الحدود وملاحقة المجرمين. وفي السياق حذر الفرنسيون من رغبة حفتر وقواته في السيطرة على مدينة غدامس (جنوب غرب) الاستراتيجية.
مفترق الحدود الدولية
وتقع الواحة التاريخية على مفترق الحدود بين الجزائر وليبيا وتونس. وترتدي هذه الواحة بُعدا رمزيا، فهي المدينة الليبية الوحيدة التي كان الموفد الأممي الخاص السابق غسان سلامة، يُزمع على عقد مؤتمر وطني شامل فيها، أواسط نيسان/ابريل 2019 بمشاركة ألف شخصية من جميع الاتجاهات السياسية والمكونات القبلية. إلا أن ثمرة اجتماعات تمهيدية استمرت عاما كاملا، أصبحت تذروها الرياح، بعد إطلاق حفتر حملته العسكرية، مطلع الشهر نفسه لاحتلال طرابلس.
ومن المؤشرات التي تثير الريبة في شأن نوايا «القيادة العامة» برئاسة صدام خليفة حفتر، نقل وحدات عسكرية تابعة لها إلى مناطق الجنوب الغربي ومدنه، ما دل على وجود تخطيط لعملية عسكرية كبيرة في الجنوب. بالمقابل أعلنت حكومة الوحدة في طرابلس عن رفع درجة الاستعداد والتأهب لدى قوات «الجيش» المؤلف من الأجسام العسكرية التابعة لها.
حالة القوة القاهرة
بهذا المعنى ينبغي فهم البيان شديد اللهجة الصادر عن المجلس الأعلى للدولة (استشاري) والذي دان التحركات العسكرية لقوات حفتر في الجنوب الغربي، لكنه عاجز عن إيقاف تقدمها شبرا واحدا. وتحوي هذه المنطقة أهم حقول النفط والغاز في ليبيا، وعليه فإن اندلاع أية اشتباكات سيؤدي إلى وقف الإنتاج، واستطرادا مواجهة صعوبات في الانفاق العام وخاصة في صرف رواتب الجيش والمدنيين. وعلى الرغم من توجيه معاون رئيس الأركان في المنطقة الغربية الفريق صلاح النمروش تعليمات لوحدات «الجيش» برفع درجة الاستعداد لصد أي هجوم محتمل، فإن الميزان العسكري مختل اختلالا كبيرا بين الجانبين. لكن المجلس الرئاسي يكتفي، في مواجهة شبح الحرب الأهلية، ببيانات الشجب والإدانة.
عواصم مؤثرة
من البديهي أن تحريك قوات كبيرة من المنطقة الشرقية، في أجواء تُنذر باندلاع حرب شاملة، لا يمكن أن يتم من دون علم العواصم المؤثرة في المشهد الليبي، الإقليمية منها والدولية، وموافقتها. وما من شك بأن دولا من بينها الإمارات وروسيا ومصر وفرنساُ تعمل على مساعدة حفتر وأبنائه على السيطرة على الجنوب الغربي، بما يجعله صاحب الكلمة الأخيرة في معاودة تشكيل التوازنات داخل ليبيا كلها.
يتجلى هذا الهدف بوضوح، في ظل إعلان القوات التابعة لحفتر أن الغاية من تحركاتها هي تأمين مناطق سبها وغلا ومرزوق والقطرون وبراك الشاطئ وأدري، في إطار «خطة لتأمين الجنوب» أي لوضع اليد على الحقول والمدن الرئيسية. ولوحظ أن قوات حفتر تستثمر شعور الحرمان والتهميش، الذي يُعبر عنه دوما أهالي اقليم فزان، لكي تكسب ودهم. ويستخدم الورقة نفسها المجلس الرئاسي في المنطقة الغربية، إذ أعلن رئيسه محمد المنفي عن تدابير تشمل إدارة مشتركة للانفاق العام وعوائد النفط بشكل شفاف. ويُعتبر هذا الكلام موجها إلى سكان الجنوب والجنوب الغربي، الذين يشتكون منذ عقود من توجيه مشاريع التنمية إلى مناطق الشمال، مطالبين بتوزيع عوائد النفط والغاز على كامل مناطق ليبيا بالعدل والقسطاس. وما يزيد من حدة تلك المؤاخذات أن معظم الحقول يقع في منطقتهم (الجنوب)، لكنهم لم يتمتعوا بثمارها منذ الاستقلال إلى اليوم.
تدخل عسكري خارجي؟
واستطرادا اضطُرت المؤسسة الوطنية للنفط في هذه الأجواء المشحونة، إلى غلق حقل الشرارة وفرض حالة القوة القاهرة، بسبب اعتصامات نفذها «تجمع حراك فزان» ما سينعكس سلبا في قدرة الحقل على الانتاج مستقبلا، وبالتالي في الحجم الاجمالي لعوائد النفط. وإذا ما أقدم صدام حفتر على اجتياح تلك المدن الجنوبية، وسيطر عليها، فلن ينقذ حكومة الوحدة الوطنية من الانهيار سوى تدخل عسكري خارجي أسوة بالدعم الذي لقيهُ رئيس حكومة الوفاق فايز السراج من تركيا، في حرب طرابلس. ومن التداعيات المحتملة لمثل ذلك الغزو انهيار اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في 2020 بوساطة دولية. واللافت أن تدهور الوضع الأمني جعل السفير الأمريكي المبعوث الخاص للولايات المتحدة إلى ليبيا ريتشارد نورلاند، أسرع الخطى للقاء رئيس المؤسسة الوطنية للنفط فرحات بن قدارة، على إثر إعلان حالة القوة القاهرة في حقل الشرارة. وأبدى الدبلوماسي الأمريكي قلق حكومته من توقف إنتاج النفط، الذي وصفه بكونه «شريان حياة الليبيين» ما يعني أن مركز اهتمام الأمريكيين مُنصبٌ على النفط وأحواله.
على أن السؤال الذي يطرح نفسه في سماء مُلبدة بالغيوم، وأمام ارتفاع لغة العنف، هو التالي: هل ما زال من هامش لتحرك يقوده الزعماء القبليون مثلا، لخفض مستوى الاحتقان ووقف العنف ومحاولة استئناف المسار السياسي؟ يبدو ذلك غير وارد وسط شحذ السكاكين وتلميع السيوف استعدادا لمواجهة قد تقضي على الأخضر واليابس.