عالم رياضيات: هل الحضارة الغربية في طريقها للانهيار؟
يبدو أن انهيار الحضارات كان نمطا طبيعيا ومتكررًا في تطور الثقافات عبر التاريخ، فغالبا ما كانت تتبوأ مرحلة الانهيار والضعف مكانتها بعد مرحلة الازدهار. وأقرب مثال على ذلك هو ما حدث لإمبراطورية مصر القديمة، والإمبراطورية الرومانية، وحضارة المايا (إحدى الحضارات القديمة التي ظهرت في منطقة أمريكا الوسطى والجنوبية*)، وأسرة تشينغ الصينية التي شهدت فترات من الازدهار ثم تلاها الانهيار، ويبدو أن هذا هو المسار الحتمي لأي حضارة.
أما في الوقت الحاضر، فقد تواجه الحضارة الغربية المصير ذاته نظرًا إلى وجود علامات واضحة على أزمات متنوعة، مثل اتساع فجوة التفاوتات الاقتصادية والانقسامات السياسية والصراعات العنيفة، فضلًا عن الكوارث البيئية. ويَعتَبِر بعض المتابعين أن ما يحدث مؤشر على “أزمات عالمية متعددة” تُشكِّل تهديدًا خطيرًا، ربما يكون وجوديًّا للمجتمعات المعاصرة.
منذ أكثر من عقدين من الزمن، توقعتُ أن هذا هو ما ستؤول إليه الأمور في نهاية المطاف، وذلك بناءً على دراسة الأنماط الرياضية في النظم المعقدة وتطبيقها على التاريخ. وباستخدام هذا النهج، اكتشفتُ أن الاضطرابات السياسية العنيفة تتبع دورات زمنية معينة، إحداها تبلغ ذروتها كل 50 عامًا أو نحو ذلك، وتصل الأخرى إلى ذروتها كل قرنين أو ثلاثة قرون.
وبتطبيق هذا النموذج على الولايات المتحدة وغرب أوروبا، فوجئتُ بعدما أظهرت النتائج أن هذه المجتمعات تتقدم بسرعة نحو حافة الهلاك. في عام 2010، أشرت في دورية “نيتشر” إلى أن الأزمة ستتصاعد وتبلغ ذروتها خلال العقد الحالي. وبالفعل بعد عشر سنوات، أكدت الأدلة صحة هذه التوقعات.
استحوذ كتابي “نهاية العالم” (End Times) الذي نشرته مؤخرًا، على اهتمام النقاد والقرَّاء باستخدامهم كلمات مثل “الانهيار” أو “الثورة” أو حتى “الهلاك” لوصف عملي. ومع ذلك، قد يُفاجئك عدم اعتقادي أن الانهيار أمر حتمي. إذ يزيح بحثي الأخير الستار عن شيء مثير للاهتمام: لقد تطورت المجتمعات البشرية لتصبح أقل تعرضًا للانهيار. والأفضل من ذلك أن هذا الاكتشاف قد يؤدي دورًا هامًّا في تجاوز الأزمة الراهنة.
على مدى أكثر من ثلاثة عقود، جمعتُ أنا وزملائي بيانات عن المجتمعات الماضية وكيف ازدادت تدهورًا خلال الأزمات ثم خرجت منها. وهو ما يُعتبر مهمة شاقة لأنها تتطلب معلومات عن العشرات من المتغيرات القابلة للقياس التي تصف الخصائص الرئيسية للأنظمة الاجتماعية وتحليل ديناميكياتها، أو العوامل والعلاقات التي تؤثر في تطور المجتمعات والتغيرات في سلوكها على مدى فترات زمنية مختلفة.
عندما لا تتوفر مؤشرات مباشرة -وهو ما يُعتبر شائعا كلما عدت بالزمن إلى الوراء- سيتعين عليك البحث عن مؤشرات غير مباشرة لتكون بمثابة بدائل. ولحسن حظنا، نمتلك حاليًّا بيانات عما يقرب من 200 أزمة حدثت خلال الـ5000 عام الماضية. ولبلوغ أهدافنا المنشودة، استخدمنا هذه البيانات لتجميع قاعدة بيانات تاريخية ضخمة تسمى “كرايسيز دي بي” CrisisDB. وبهذا يمكننا البدء في البحث عن الأنماط والاتجاهات التي تحدث في المجتمعات أثناء الأزمات وبعدها. لكن خلال دراسة البيانات والمتغيرات التي تؤثر في المجتمعات وتعبِّد لها سبيلًا نحو الانهيار، صادفنا بعض المفاجآت، منها أن عددًا قليلًا من المتغيرات كان كافيًا لتحديد ما إذا كانت المجتمعات في طريقها إلى الانزلاق نحو الهاوية.
ومن بين هذه المتغيرات التي تؤدي دورًا خارجيًّا فقدان شرعية الدولة والضغوط الجيوسياسية والجغرافية والاقتصادية. ومع ذلك يتمحور المؤشران الرئيسيان للأزمة الوشيكة حول “البؤس الشعبي” أو بمعنى أصح تدهور أو تردي حالة الرفاهية أو الظروف المعيشية للغالبية الساحقة من الشعب، بجانب “الفائض في إنتاج الطبقة النخبوية”، أي إنتاج المجتمع عددًا هائلًا من الأفراد الذين يسعون للانضمام إلى النخبة يفوق عدد المناصب التي توفرها لهم الدولة.
ويرتبط كل من هذين المؤشرين بالآخر؛ فالاستياء الشعبي، الذي ينشأ نتيجة لتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للغالبية العظمى من السكان لا يكفي وحده لتغيير الوضع الراهن، بل يحتاج إلى قيادة وتنظيم من قِبَل فئة من النخبة المعارضة، أولئك الذين يسعون للنفوذ والثروة، ولكنهم يجدون صعوبة في تحقيق أهدافهم.
على الرغم من أن الأزمات تتبع عادة نمطًا معينًا من الانهيار، فإن تحليلنا يكشف أنه لا يوجد نمط قياسي للانهيار، ولا يمكن التنبؤ بكيفية حدوث الأزمات بدقة أو تطورها. لكن لحسن الحظ، أتاحت قاعدة البيانات التاريخية الضخمة CrisisDB”” للباحثين فرصة لتحديد مجموعة من الآثار الناجمة عن انهيار المجتمعات، ويُظهِر التحليل تباينًا هائلًا في كيفية حدوث الأزمات.
وتُعَدُّ أكثر الطرق شيوعًا لخروج المجتمعات من فترة “نهايتها” هي الحروب الأهلية الدموية أو الثورات العنيفة، وتشمل النتائج المحتملة الأخرى تداعيات ديموغرافية حادة قد يتمخض عنها في بعض الأحيان فقدان غالبية الشعب، وإطاحة الحكام أو قتلهم، وإسقاط النخب الحاكمة عن طريق ثورة اجتماعية، أو حتى إبادتهم. كما يمكن أن تؤدي الأزمات أيضًا إلى تجزئة الأراضي، وتدمير العاصمة أو التخلي عنها، أو سقوطها فريسة لأنياب احتلال خارجي.
لكن ما قد نسهو عنه أن حالة الانهيار الشامل (حينما يحدث انهيار للمجتمع على أكثر من جبهة أو نواحٍ مختلفة) تُعدُّ نادرة للغاية. وبدلًا من ذلك، قد يتركز الانهيار على جوانب محددة أو قضايا معينة من دون تأثّر جميع أوجه الحياة. وفي بعض الحالات، ينجح القادة والشعوب في توحيد صفوفهم والتغلب على الاضطرابات الاجتماعية من دون اللجوء إلى العنف.
فعلى الرغم من وجود عوامل قد تزيد احتمال وقوع الأزمات، فإن الانهيار الشامل للمجتمعات ليس أمرًا حتميًّا. قبل قرنين من الزمان، اجتاحت موجة من عدم الاستقرار العالم كله. ورغم أن الأزمات تُؤججها في الأساس عوامل داخلية، فلن نجد -مع ذلك- بلدًا يعيش في عزلة تامة؛ وبالتالي فالتأثيرات الأوسع نطاقًا -على غرار التأثيرات الجيوسياسية والاقتصادية والثقافية- تميل إلى تحفيز الأزمات في دول مختلفة، ولكن ليست بصورة متزامنة، بل على فترات زمنية مختلفة أو بوتيرة مختلفة.
في أبحاثي السابقة، توصلتُ إلى أن مثل “فترات الاضطراب” هذه يتكرر تقريبًا كل قرنين. واليوم، نعيش في خضم عصر من عصور تلك الاضطرابات، في حين يمكننا أن نُطلِق على الفترة السابقة “عصر الثورات” التي بلغت ذروتها خلال منتصف القرن التاسع عشر (بغض النظر عن أن تبعاتها استمرت حتى بداية القرن العشرين). وعلى المنوال ذاته، سنجد أن الثورات التي وقعت عام 1848 انتشرت بسرعة في أوروبا واجتاحت مجموعة واسعة من البلدان بدءًا من فرنسا ثم انتقلت إلى ألمانيا والنمسا وإيطاليا وعدد من الدول الصغيرة الأخرى.
وبدءًا من عام 1850 وصولا إلى ستينيات القرن التاسع عشر، شهدت الصين وروسيا والولايات المتحدة اضطرابات كبيرة. وبصورة أساسية، تأثرت جميع الدول الكبرى في العالم بهذه الموجة من عدم الاستقرار. ومع ذلك، تباينت شدة النتائج تباينًا عظيمًا.
لمحات من تاريخ دامٍ
شهد البشر عدة حالات من التحولات الاجتماعية والسياسية المهمة التي وقعت في مختلف أنحاء العالم خلال فترة معينة من التاريخ. في بعض الأحيان، كانت تنتهي الأزمات بنهايات عنيفة ودموية، مثل ما حدث أثناء تمرد تايبينغ (حرب أهلية واسعة النطاق في جنوب الصين، امتدت من سنة 1850 إلى 1864 أثناء حكم أسرة مانشو (تشينغ)*)، وأدت هذه الحرب إلى مقتل ما بين 20 و30 مليون شخص؛ مما جعلها أكثر الحروب الأهلية دموية في التاريخ البشري. وكذلك الحال في الحرب الأهلية الأميركية التي استمرت من عام 1860 إلى 1865، والتي تُعدُّ أشد الحروب دموية في تاريخ الولايات المتحدة، إذ أسفرتْ عن مقتل نحو 600 ألف شخص.
على الجانب الآخر، تمكنت الإمبراطورية البريطانية، رغم أنها شهدت الكثير من الاضطرابات بين عامي 1838 و1857، من تفادي ثورة عنيفة، إذ تعاونت النخب الحاكمة وتبنت مجموعة من الإصلاحات ساهمت في تخفيف حدة الأزمة، مثل السماح للعمال بتنظيم وتوسيع حق التصويت. وكذلك، نجحت روسيا في تجنب الانهيار رغم انزلاقها إلى أزمة خلال خمسينيات القرن التاسع عشر وهزيمتها المُهينة في حرب القرم (التي وقعت بين الدولة العثمانية والإمبراطورية الروسية عام 1853، ونشبت نتيجة أطماع الروس في غزو أراضٍ عثمانية والسيطرة على البحر الأسود وممراته*)، بجانب كثرة الاضطرابات بين فئات الشعب الروسي. ومع ذلك، انتهت الأمور في روسيا بلا عنف نسبيا، مع تبني الحكومة مجموعة من الإصلاحات، بما في ذلك إلغاء نظام العبودية.
يقدّم التحليل الأخير لقاعدة بيانات “CrisisDB” رسالة إيجابية بشأن كيفية تطور الأزمات في المجتمعات المختلفة على مر العصور. فخلال بحثي أنا وزملائي عن هذه القضية خلال الـ5000 عام التي شملتها قاعدة البيانات هذه، اكتشفنا أن الأدلة التاريخية تشير إلى أن الدول والمجتمعات المبكرة كانت أكثر هشاشة مقارنة بتلك التي تلتها. وتُظهِر الأنماط البيانية التجريبية أنه كلما اقتربنا من وقتنا الحاضر، أصبحت الانهيارات الاجتماعية والسياسية الناتجة عن الأزمات أقل حدة.
أما على المستوى الكمي، فسنجد أن أحد أبعاد الانهيار هو انخفاض عدد السكان، وهو ما يُعتبر مُبررًا لأن حجم المجتمع قد يكون أحد أبرز السمات الأساسية لأي مجتمع، كما أن انخفاض عدد السكان يعكس بؤسًا إنسانيًّا لا يوصف، نتيجة لوفاة الناس جراء العنف والأمراض الوبائية والمجاعات، أو بسبب تحولهم إلى لاجئين على سبيل المثال.
عادةً ما تتضمن أشهر الأمثلة على انهيار المجتمعات في الماضي الانخفاض الحاد في عدد السكان، و يُعتَبر انهيار حضارة المايا مثالًا جيدًا على ذلك، فبفضل التقنيات الحديثة مثل “ليدار” (LiDAR) (وهو جهاز يقوم بمسح المحيط بواسطة أشعة الليزر ويبني من خلال عملية المسح تمثيلًا ثلاثي الأبعاد يعكس بدقة كبيرة أشكال وأحجام وأبعاد الأجسام في المكان*) تبين لعلماء الآثار أن الغابات المحيطة بمراكز المايا المهجورة كانت زاخرة في وقت ما بالمنازل والحقول والطرق.
ومن هنا يأتي السؤال المهم: ماذا سنكتشف وراء العلاقة بين شدة الأزمات الماضية وانخفاض عدد السكان؟ فلنعد إلى تمرد تايبينغ مرة أخرى. خلال هذه الفترة انخفض عدد سكان الصين بنسبة 13% من 412 مليون نسمة عام 1850 إلى 358 مليون نسمة عام 1870. وعلى الرغم من حجم هذه الخسارة، فإنها لا تعني الكثير أمام انهيار أسرة هان عام 220م، ففي أوج قوتها وازدهارها، وصل عدد سكان السلالة إلى نحو 60 مليونًا، في حين وصل عددهم بعد الانهيار إلى أقل من 20 مليونًا.
وبمرور الزمن، أصبح الانخفاض في عدد السكان الناجم عن نهاية السلالات اللاحقة في الصين، مثل سلالات تانغ، وسونغ، ومينغ، أقل حدة. بمعنى أن الأزمات الاجتماعية والسياسية التي أدت إلى انخفاض السكان كانت أقل شدة مع كل تغيير في السلطة ونهاية للسلالة. أو خذ على سبيل المثال ألمانيا، فعلى الرغم من أنها شهدت ثورة عام 1848، فإن موجة عدم الاستقرار هذه لم تخلِّف وراءها تبعات ديموغرافية خطيرة، وذلك عكس الاضطرابات والفوضى السابقة التي حدثت في القرن السابع عشر، إذ شهد ابتداءً من عام 1618، حروبًا ونزاعات مُدمِّرة مثل حرب الثلاثين عامًا التي اندلعت في أوروبا بدءًا من عام 1618، وأسفرت عن مقتل ملايين الأشخاص وتركت بعض مناطق ألمانيا بنسبة 50% فقط من سكانها السابقين.
على الجانب الآخر، كشف تحليلنا أن السبب الذي جعل المجتمعات البشرية أكثر مرونة هو كونها أصبحت أشد تعقيدا. قد يبدو هذا مفاجئًا جرَّاء الفكرة الشائعة في علم الآثار التي تشير إلى أن المجتمعات المعقدة معرضة بشدة للانهيار. في كتابه المؤثر “انهيار المجتمعات المعقدة” (The Collapse of Complex Societies)، يجادل جوزيف تاينتر من جامعة ولاية يوتا الأميركية بأن تراكم التعقيد هو الذي يقوض الاستقرار، إلا أن التحليل الذي أجرته الدراسة لا يتفق مع هذا الرأي. والآن، نحن بحاجة إلى التمييز بين بُعدين للتعقيد لفهم كيف أصبحت المجتمعات أكثر مرونة مع مرور الوقت.
يكمن البُعد الأول في الحجم، وهنا بالأخص نتحدث عن حجم السكان، أي عدد الأشخاص الذين تحكمهم دولة أو إمبراطورية. ومع ذلك، توجد جوانب أخرى للحجم، مثل مساحة الدولة وعدد الأشخاص الذين يعيشون في العاصمة والمدن الأخرى. فمع زيادة حجم المجتمع، أصبح من الصعب على الدولة أن تحكم على نحوٍ فعال، إذ تغدو المناطق البعيدة عن العاصمة عرضة أكثر للانشقاق، ويشتعل فتيل التوترات بين المجموعات العرقية المختلفة داخل الإمبراطوريات الكبيرة المتعددة الأعراق. ونظرًا إلى أن حجم الدول قد ازداد منذ ظهورها قبل حوالي 5000 عام، كان من المفترض -على هذا الاتجاه- أن يجعلها ذلك أكثر هشاشة.
تعقيدات مؤسسية
أما البعد الثاني من التعقيد فسنجده يوفر اتجاهًا مُعاكسًا. لم تتوسع الدول من حيث الحجم فحسب، بل تطورت أيضًا من حيث التعقيد المؤسسي. ونتيجة للتنافس والصراع بينها، اكتسبت الدول أنظمة أكثر تطورًا لمعالجة المعلومات والتبادل الاقتصادي وإدارة الحكم، وأصبحت أنظمة الإدارة والتنظيم داخل الحكومة أكثر كفاءة في تنفيذ المهام والإجراءات. هذا التطور في الفعالية يُشير إلى تحسين طرق العمل، وتقليل البيروقراطية، وكذلك تطورت القيود المفروضة على الحكام والنخب. وكأي شكل من أشكال التطور، يكون في النهاية البقاء للأصلح (أي أن الأنظمة الأكثر تكيفًا وكفاءة هي من تُكتب لها النجاة في الغالب).
وببساطة، انهارت الدول التي فشلت في اكتساب هذا النوع من التعقيد، وسقطت أراضيها فريسة لمنافسين أقوى. وبالتالي فإن ما يجعل المجتمعات أكثر قدرة على مقاومة الصدمات الداخلية والخارجية هو “التعقيد المفيد” (useful complexity)، ويتمثل أساسا في تراكم التقنيات الاجتماعية التي تساهم في جعل المجتمعات أكثر تنظيمًا وتماسكًا على المستوى الداخلي.
للتوسع أكثر في هذه الفكرة، أجرى فريقي مؤخرًا تحليلًا جديدًا لمجتمعات العصر الحجري الحديث أثناء انتشارها من آسيا عبر أوروبا فيما بين 9000 و5000 سنة مضت. عاش هؤلاء المزارعون الأوائل في أوروبا في مجتمعات منظَّمة بصورة مبسطة، حيث كان لكل قرية نظام حكم مستقل بدون كتابة أو بيروقراطية أو حكام وراثيين (مثل الذين أصبحوا بارزين فيما بعد خلال العصر البرونزي اللاحق). ومع ذلك، لم تكن هذه المجتمعات محصَّنة ضد الانهيار الديموغرافي. وفي كل مكان تتوفر لدينا معلومات مُفَصَّلة عن ديناميات السكان، نلاحظ أن الفترات التي تصل فيها أعداد السكان إلى ذروتها، كانت تتبعها انخفاضات حادة قد يختفي بعدها أكثر من نصف السكان وتُهجَر المنطقة كلّها.
يعتقد بعض الباحثين أن التغيرات المناخية أو استنزاف التربة أو الأوبئة هي الأسباب المُحتملة لهذه الانخفاضات الحادة في السكان. ومع ذلك، يشير تحليلنا إلى أن الصراعات العنيفة كانت سببًا رئيسيًّا لهذه الانهيارات. وبغض النظر عن السبب، فإن الأدلة المتزايدة تُظهر أن الانهيارات الديموغرافية لم تكن نادرة في عصور ما قبل التاريخ. ومع جمع المزيد من البيانات الكمية من مناطق مختلفة، بدأ يتضح أن مثل هذه الانخفاضات السكانية الكبيرة كانت القاعدة وليست الاستثناء. إن الآثار المترتبة على هذه الدراسة، إضافة إلى التحليل المستند إلى قاعدة البيانات الضخمة “CrisisDB” تحمل دلالات مذهلة. فعلى مدى الـ10,000 سنة الماضية، تطورت المجتمعات البشرية ثقافيًّا لتصبح أكبر وأكثر تعقيدًا.
خلال تلك الفترة، حاولت هذه المجتمعات قمع العنف الداخلي بدرجات متفاوتة. في البداية، لم تفلح في تحقيق ذلك الهدف نتيجة لهشاشتها الشديدة، وسرعان ما انحدرت إلى حروب أهلية مزقت الأواصر بين فئات الشعب. لكن بمرور الوقت، تطورت تلك المجتمعات وأقامت مؤسسات أفضل وأكثر فعالية، وهو ما زاد من قدرتها على مواجهة الصدمات الداخلية والخارجية.
ونتيجة لذلك، أصبح انهيار تلك المجتمعات أقل احتمالا. ونظرا إلى ضيق الوقت، لا يمكننا الاعتماد فقط على التطور الثقافي لحل أزمة انهيار الحضارات الغربية في الوقت الحالي. فمن خلال التحليل المفصل لقصص النجاح السابقة التي تمكنت فيها الدول من تجنب الانهيار والحروب الأهلية، وحل أزماتها من خلال تطبيق سياسات وإصلاحات مناسبة، يبدو بوضوح أن الأمر يعتمد في النهاية على التحركات الحاسمة للأفراد المؤثرين في المجتمع، كما يجب تحفيز النخب للاهتمام بالصالح العام. ولتحقيق ذلك، يتطلب الأمر عنصرين أساسيين: ضغط من الحركات الاجتماعية الشعبية، ووجود أفراد غير أنانيين لقيادة هذه الحركات.
تواجه الحضارة الغربية حاليا مشكلات خطيرة، ولكن تحليل التاريخ يكشف عن طرق لتجنب الانهيار، يكمن السر في تعزيز النوع الصحيح من التعقيد الاجتماعي، وخاصةً التركيز على المؤسسات والسياسات التي تعزز رفاهية غالبية الناس وتقلل من الصراعات بين النخب. فمثلا فرض نظام الضرائب التصاعدي، الذي تزداد فيه نسبة الضريبة مع زيادة الدخل، يساعد على الحد من تكوين عدد كبير من النخب الثرية جدًّا، ويمنع تفاقم الفقر الاقتصادي في بقية الشعب.
كما أن منح جميع المواطنين حق التصويت وانتخاب المسؤولين العموميين يحد من التصرفات التعسفية والأنانية للحكام. فعندما يكون للمواطنين الحق في اختيار قادتهم من خلال الانتخابات، يغدو الحكام أكثر مساءلة أمام الشعب؛ مما يقلل من احتمال اتخاذهم قرارات تخدم مصالحهم الشخصية على حساب المصلحة العامة.
وبجانب ذلك، فإن المؤسسات التي تحمي حقوق العمال وتقرر الحد الأدنى للأجور، مثل النقابات العمالية، تؤدّي دورًا في تقليل الفجوة الاقتصادية بين طبقات الشعب، إضافة إلى أنه من المفترض في الدولة أن تعزز بصورة عادلة رفاهية جميع مواطنيها. فعندما تتبنى الدولة نموذجا لرفاهية الشعب، فإنها تقدم خدمات ودعمًا اجتماعيًّا لضمان حصول جميع المواطنين على الحد الأدنى من الرعاية الصحية والتعليم والسكن والدخل، وهو ما يؤدي بدوره إلى تحقيق المساواة الاجتماعية وتقليل الفجوة بين الطبقات الاجتماعية وتعزيز رفاهية جميع أفراد المجتمع. وأخيرًا من خلال العمل المشترك بين الدول والمنظمات الدولية، يمكن التصدي لقضايا عالمية مثل تغير المناخ، وغيرها من القضايا العالمية الأخرى.