الحرب السرية الإماراتية في السودان
نشرت مجلة “فورين أفيرز” تقريرا أعده جون بريندرغاست المؤسس المشارك لمنظمة “سينتري” والتي تحقق في الشبكات التي تستغل العنف وتدعم النخب الفاسدة، وأنطوني ليك الذي عمل مستشارا للأمن القومي في إدارة بيل كلينتون، ناقشا فيه الدور السري للإمارات في حرب السودان.
وجاء فيه أن مليونين ونصف سوداني سيموتون من الجوع ونقص المواد الغذائية في الأربعة أشهر المقبلة.
وهو رقم يفوق بالضعف على عدد الكمبوديين الذين جوعهم زعيم الخمير الحمر بول بوت. وهو أكبر بمرتين ونصف من عدد الذين ماتوا بمجاعة إثيوبيا ما بين 1983- 1985، والتي ألهمت أغنية نحن العالم.
ومثلما قال أكبر مسؤول للشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، مارتن غريفيث “لا أعتقد أننا رأينا مثل هذا العدد من الناس المعرضين لخطر المجاعة”. ويقول الكاتبان إن التوسع الضخم للمقابر في منطقة دار فور والعنف الإبادي الناجم عن المعارك في المدن الرئيسية هو الجزء الظاهر في المعاناة الإنسانية. ورغم الحروب الطاحنة المندلعة حول العالم إلا أنه لا توجد مقارنة لكثافة ومدى النزاع في السودان.
فمنذ اندلاع الحرب في نيسان/أبريل 2023، هرب عشرة ملايين سوداني من بيوتهم، مما يعني أن واحدا من كل ثمانية نازحين ببلادهم حول العالم هو سوداني. كما تم تشريد المزيد من الأطفال في السودان وأكثر من أي مكان آخر. ومع ذلك، تظل معاناة السودانيين بعيدة عن اهتمام العالم، فلم تساهم الدول المانحة إلا بنسبة 31% من ميزانية 2.7 مليار دولار طلبتها الأمم المتحدة لعملياتها في السودان، وهو نقص كبير في أسوأ كارثة جوع في العالم.
ولا توجد دولة تعمل ما يكفي من أجل إنهاء الأزمة، لكن بعض الدول تقوم بتغذية الحرب الأهلية وتنتفع منها. فقد قدمت مصر وتركيا وإيران الدعم العسكري للخرطوم، رغم الأدلة عن ارتكاب القوات السودانية المسلحة لعمليات قصف لا يميز وتعذيب واستخدام التجويع كوسيلة حرب. ودعمت روسيا في البداية قوات الدعم السريع، الطرف الآخر للحرب وبجذوره التي تعود لميليشيات الجنجويد في حرب الإبادة بدار فور قبل عقدين.
إلا أن موسكو تلعب الآن على الحبلين، ففي أيار/مايو وقعت اتفاقا مع الجيش السوداني لبناء قاعدة دعم لوجيستي على البحر الأحمر مقابل تزويده بالمعدات العسكرية والأسلحة. ووفق التقرير ففي الوقت نفسه قضت السعودية، ذات العلاقة التاريخية مع الجيش السوداني أشهرا لتقويض الجهود الرامية لاستئناف محادثات السلام المتوقفة منذ نهاية عام 2023، وظل الأمر حتى تموز/يوليو حيث حصلت الولايات المتحدة على موافقة الرياض لاستئناف المحادثات في جنيف بشهر آب/أغسطس. غير أن التقرير أكد أن الطرف الخارجي الذي يتحمل المسؤولية عن الجوع والتطهير العرقي هي الإمارات العربية المتحدة.
وذكر أنه بينما ترتكب قوات الدعم السريع أعمال إبادة جماعية ضد المدنيين في دارفور ومناطق أخرى، تقوم أبوظبي بتسليم الأسلحة للميليشيات. وفي الوقت نفسه، تقوم شركات عديمة الضمير بتهريب الذهب السوداني إلى الأسواق الإماراتية، مما يؤدي إلى تأجيج الصراع. ويرى الكاتبان أن الإمارات استطاعت التصرف دون خوف من العقاب بسبب احتياطاتها النفطية وثقلها الإستراتيجي المهم والدور الذي تلعبه في غزة، وهذا هو سبب تردد القادة الغربيين في الضغط بشكل كبير على أبو ظبي. ويعتقد الكاتبان أن الدور الذي تلعبه الإمارات في إثارة الأزمة السودانية، يضع ضغوطا على اللاعبين الخارجيين ليجبروا الإمارات على تغيير المسار.
الحرب على الذهب
ويرى الكاتبان أن الذهب هو العامل الأكبر المحرك للحرب، حيث تتورط قوات الدعم السريع بشكل أعمق في تجارته مع أن الجانبين قاما بتهريب كميات كبيرة من الذهب وبيعها لتغذية آلات الحرب الخاصة بهما. وتستفيد الإمارات حاليا من هذه التجارة.
ولم تتوفر إحصاءات عام 2023 بعد، ولكن في عام 2022، استوردت الإمارات 39 طنا من الذهب من السودان، بقيمة تزيد عن 2 مليار دولار، ولا تزال الشحنات المباشرة من الذهب السوداني مستمرة بالتدفق على الإمارات وحتى اليوم. وهناك لاعبون سيئون يهربون الذهب السوداني إلى تشاد ومصر وإثيوبيا وجنوب السودان وأوغندا، مع أن معظم الذهب ينتهي في السوق الإماراتي.
وبحسب بيانات تجارية من الأمم المتحدة، فقد وصل 60 طنا من الذهب إلى الإمارات عام 2022. وفي تقرير استشاري حول مخاطر الأعمال صدر في أيار/مايو، لاحظت وزارة الخارجية أن الإمارات تحصل على “كل” الذهب القادم من السودان.
وتعتبر الإمارات المركز العالمي لغسيل الذهب وهي أكبر وجهة للذهب المهرب من أفريقيا. وأشار تقرير لمنظمة غير حكومية سويسرية تدعى “سويس إيد”، نشر قبل فترة، إلى أن 405 أطنان من الذهب هربت من دول الصحراء إلى الإمارات عام 2022، مما يجعل الإمارات أكبر مستورد للذهب الأفريقي غير المشروع في ذلك العام.
ويقول خبراء الصناعة إن كميات كبيرة من الذهب المهرب التي لم يتم الإعلان عنها مطلقا في بلدانها الأصلية تصبح فجأة قانونية عند نقلها عبر الإمارات العربية المتحدة، مما يعزز دور الأخيرة في غسيل الذهب. وأضاف الكاتبان أن جمعية سوق السبائك في لندن وهي مؤسسة مؤثرة في تنظيم تجارة الذهب العالمي قامت مع مهمة العمل المالية، وهي جهة حكومية دولية تقوم بمواجهة غسيل الأموال، ما بين 2020- 2022 بالضغط على الحكومة الإماراتية لمعالجة عملية غسيل الذهب غير المشروع.
وردت الإمارات باتخاذ بعض الخطوات، بما في ذلك وضع الجهات التي تقوم بتصفية الذهب تحت التدقيق بناء على المعايير الدولية. ومع ذلك تظل هناك ثغرات مهمة في أسواق الذهب في البلد حيث يتم تبادل الذهب نقدا.
ويقول الكاتبان إن اتخاذ إجراءات صارمة ضد تجارة الذهب غير المشروع، من شأنه أن يمنع الشركات الإماراتية من التربح من الحرب. كما يتعين على جمعية سوق السبائك في لندن أن تنسق مع الحكومات الأخرى لدفع الإمارات العربية المتحدة إلى السماح بالمراقبة المستقلة لأسواق الذهب لديها ــ على غرار بعثات المراجعة المستقلة التي تعطل تجارة الماس الملوث بالدم في إطار ما يعرف بنظام شهادة عملية كيمبرلي. وبدون المراقبة المستقلة لأسواق الذهب، لن تفعل الإصلاحات المحلية الكثير لعرقلة تجارة الذهب في مناطق الصراع.
ويؤكد الكاتبان أنه يجب على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فرض مزيد من العقوبات على الشركات التي تشتري وتبيع الذهب المهرب من السودان. وفي حزيران/يونيو منعت وزارة الخزانة الأمريكية سبع شركات من التداول في السوق المالي الأمريكي للاشتباه بأنها خرقت العقوبات المفروضة على السودان. وهذه خطوة جيدة، لكن التأثير على تفكير القادة الإماراتيين يحتاج إلى استهداف شبكة الشركات والأفراد في الإمارات المتورطة في تهريب الذهب السوداني. ذلك أن أصحاب هذه الشركات يغيرون أسماءها وبشكل مستمر ويستخدمون مدراء وهميين ليحلوا محل الملاك الحقيقيين، ولهذا يجب أن تكون العقوبات شاملة لتنجح.
استهداف الاستثمارات
ويرى الكاتبان أن تعطيل تجارة الذهب السوداني الممول للصراع، ربما كان وسيلة فعالة بشكل خاص بالنسبة للجهات الفاعلة الخارجية لإبعاد الإمارات العربية المتحدة عن دعم قوات الدعم السريع، ولكنها ليست الطريقة الوحيدة المتاحة لها. فالإمارات استثمرت وبشكل واسع فيما يعرف بالغسيل الرياضي، أي تبييض سمعتها عبر المال، إما مباشرة أو عبر شركات خاصة أو نوادي الدوري الإنكليزي الممتاز والفرق حول العالم. وقد باتت أهم نوادي كرة القدم الأوروبية مثل مانشستر سيتي وإي سي ميلان وأرسنال وريال مدريد مدعومة ماليا من الإمارات. وهو نفس الحال مع فورمويلا وان، رابطة سباقات السيارات الدولية وبيسبول يونايتد، وهي رابطة مقرها في دبي وتضم لاعبين سابقين في دوري البيسبول الأمريكي.
وأكد الكاتبان أنه سوف يشعر المشجعون بالانزعاج بحق عندما يعلمون أن رعاة رياضييهم المفضلين يتعهدون أيضاً بتمويل العنف الإبادي. وإذا استخدمت حتى بضعة فرق رياضية ودوريات ولاعبون ومشجعون وسائل التواصل الاجتماعي لانتقاد مساهمات الإمارات العربية المتحدة في أزمة السودان، فإن الإحراج العلني قد يجعل الإمارات العربية المتحدة تفكر مرتين في سياساتها.
وقال الكاتبان إنه يجب على الولايات المتحدة إعادة النظر في صفقات الأسلحة وبمليارات الدولارات التي تبيعها كل عام للإمارات. وقد دق أعضاء في الكونغرس ومنظمات حقوقية دولية، مثل أمنستي انترناشونال ومنظمة هيومان رايتس ووتش، ناقوس الخطر حول تسليح الإمارات قوات الدعم السريع وحثوا الدول التي تقدم السلاح إلى الإمارات على بذل المزيد من العناية الواجبة للتأكد من عدم وصول هذه الشحنات إلى دارفور. وقد قدمت النائبة الديمقراطية من كاليفورنيا سارة جاكوبس، العضو البارز في اللجنة الفرعية الأفريقية للجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب، مشروع قانون في أيار/مايو 2024 من شأنه أن يحظر مبيعات الأسلحة الأمريكية إلى الإمارات حتى يصادق الرئيس الأمريكي بأن أبو ظبي توقفت عن تسليح قوات الدعم السريع.
وبرأي الكاتبين فيجب على المشرعين في الكونغرس والصحافيين ودعاة حقوق الإنسان الكشف وانتقاد شركات العلاقات العامة التي استعانت بها أبو ظبي للتأثير على السياسة الأمريكية وتشكيل الرأي العام حسب رغبتها.
فقد أبرمت مثلا مجموعة أف جي أس غلوبال للاستشارات الإستراتيجية، عقدين مع الحكومة الإماراتية بقيمة إجمالية 5.6 مليون دولار، بالإضافة إلى النفقات، للفترة 2024-2025. وتعاقدت شركة المحاماة البارزة أكين غرامب شترواس هوير أند فيلد مع شركة ضغط مقرها واشنطن لتقديم المشورة للإمارات بشأن المبيعات العسكرية في عام 2023، وحصلت خلال ستة أشهر من ذلك العام على رسوم بقيمة 3.8 مليون دولار من الإمارات.
وشدد الكاتبان على أنه طالما ظلت الإمارات تساعد وتشجع قوات الدعم السريع، فجماعات الضغط في واشنطن وشركات المحاماة التي تعمل لصالح حكومة الإمارات تعتبر متورطة في تمكين الفظائع.
أين تحالف أنقذوا دار فور؟
ويذكر الكاتبان أن تحالفا دوليا شكل قبل عقدين اسمه “أنقذوا دار فور” واستهدف أكبر مستثمر في حينه في السودان وهي الصين. واتهموا بيجين التي كانت تحضر لدورة الألعاب الأوليمبية عام 2008 بأنها تتجاهل المذابح الجارية في الإقليم.
واستقال في بداية شباط/فبراير 2008 ستيفن سبيلبرغ، الذي عينته الصين كمدير فني لحفلة الافتتاح والنهاية للألعاب احتجاجا على علاقة الصين بالإبادة.
وأكدا أنه كان للضغوط الدولية والشجب أثره، ففي نهاية شهر شباط/فبراير 2008 انضمت الصين إلى الأصوات الضاغطة على الخرطوم والسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى معسكرات النازحين والعمل على منع الجرائم ضد المدنيين. وكما أظهرت استقالة سبيلبرغ قبل عقدين من الزمان، فإن الضغوط من مصادر غير متوقعة يمكن أن تحدث فرقا.
واليوم، يرى الكاتبان، أنه يجب على جماعات المناصرة والشركات والفرق الرياضية والرياضيين وصناع السياسات وأي شخص لديه منصة عامة استخدام كل الأدوات المتاحة لهم لمنع تصاعد المجاعة والإبادة الجماعية في السودان. وشددا على أن الإمارات متورطة بشكل عميق مع قوات الدعم السريع وتتحمل مسؤولية ثقيلة عن الأزمة، لكن هذا يعني أنها تتمتع أيضا بنفوذ هائل يمكن لأبو ظبي أن تستخدمه في التأثير على قرارات قوات الدعم السريع.