حادثة الجندي المصري: تمويت وتعتيم مقابل عدم التكرار
التعليمات التي وصلت إلى وسائل الإعلام المصرية كانت واضحة، “عدم تضخيم قتل الجندي المصري”، الذي قتل في مواجهة مع الجيش الإسرائيلي قرب معبر رفح. التقرير الذي بثته وسائل الإعلام الرسمية كان مقتضباً بشكل استثنائي. موقع غير حكومي كلف نفسه عناء إحصاء عدد الكلمات التي خصصتها وسائل الإعلام للجندي: 30 – 45 كلمة. وحتى إن الجيش المصري لم يصادق على نشر اسم هذا الجندي، عبد الله رمضان. عملياً، اسم الجندي نشرته جهات مناوئة للحكومة، عبر اكس.
لم يشارك ضباط كبار في الجيش في جنازته التي جرت أول أمس في قرية العجمين في محافظة الفيوم، سوى قائد الشرطة المحلي وضابط برتبة متوسطة جاءا للرقابة. حسب التقرير في “اكس”، فقد شارك في الجنازة آلاف الأشخاص وأطلقوا الشعارات ضد إسرائيل. وكما هو متوقع، لم تنشر قنوات التلفاز المحلية شيئاً من كل هذا. ولكن التعليمات لوسائل الإعلام بـ “تمويت” الحادثة لم تطمس تهديدها. ثمة مصادر رفيعة في الجيش الإسرائيلي وفي “الشاباك” الإدارة المدنية، والمستويات الرفيعة في مصر، سارعت إلى إجراء محادثات كثيفة خوفاً من تطور المواجهات المحلية إلى حدث سياسي يعمل على تغيير الواقع ويضر باتفاق السلام بين إسرائيل ومصر. لجان تحقيق إسرائيلية ومصرية تم تشكيلها على الفور، وقد تم أيضاً اتخاذ قرار مشترك بالإبلاغ عن نتائج التحقيق.
حسب مصادر في إسرائيل، تعهدت إسرائيل بالحرص على عدم تكرار ذلك. وإضافة إلى ذلك، تنوي واشنطن في القريب إرسال وفد رفيع من مجلس الأمن القومي لمناقشة الترتيبات التي قد تسمح بإعادة فتح معبر رفح.
أول أمس، كان يمكن للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أن يسافر بهدوء إلى الصين للمشاركة في المنتدى العربي – الصيني الذي يتم عقده منذ عشرين سنة، ويستقبله الحرس العسكري في الصين باحترام، من أجل إجراء محادثات مع الرئيس الصيني، والتوقيع الأربعاء على عدة اتفاقات تعاون اقتصادي مع الصين التي استثمرت أكثر من 14 مليار دولار في مصر عام 2023. وأيضاً اتفاقات كامب ديفيد اجتازت عقبة خطيرة أخرى.
وزير خارجية الاتحاد الأوروبي، جوزيف بوريل، نشر الإثنين الماضي بأن وزراء خارجية الاتحاد منحوه “ضوءاً أخضر سياسيا” كي يستخدم قوة المساعدات الأوروبية مرة أخرى، ولكنه أوضح بأنها خطوة لا يمكن تنفيذها إلا بعد وقف الحرب، وهي تخضع لتفاهمات مع السلطة الفلسطينية ومصر وإسرائيل، الشركاء في اتفاق المعابر الأصلي. “لا ننوي أن نكون هناك وحدنا، أو أن نكون المصدر الخارجي للأمن على الحدود. لسنا شركة حماية”، قال بوريل.
حسب اتفاق المعابر، فإن مراقبين من الاتحاد الأوروبي عملوا هناك، وكانت مهمتهم الرقابة على تنفيذ بنود الاتفاق، وتأهيل موظفي السلطة الفلسطينية من أجل إدارة المعبر حسب المعايير الدولية. عملياً، كانوا نوعاً من ستار أمامي فصل بين موظفي السلطة الفلسطينية الذين أداروا المعبر في الطرف الغزي بالتنسيق مع مصر وبين رقابة إسرائيل، الموجودة في معبر كرم أبو سالم، وتحصل في الوقت الحقيقي على صور من المعبر. وكانت لديها أيضاً صلاحية المنع أو المصادقة على عبور الأشخاص أو البضائع.
بعد سيطرة حماس على قطاع غزة في 2007 وطرد موظفي السلطة الفلسطينية، خرج المراقبون الأوروبيون وتوقفت قوة المساعدات عن العمل. بعد عشر سنوات تقريباً، في 2017، وفي إطار اتفاق المصالحة بين حماس وفتح بوساطة مصر، عاد موظفو السلطة للعمل في معبر رفح. لم تعارض إسرائيل فتح المعبر رغم أن ذلك تم بالتعاون بين حماس والسلطة الفلسطينية. ولم تصمم أيضاً على إعادة مراقبي الاتحاد الأوروبي حسب ما نص عليه اتفاق المعابر. بالنسبة لها، كان فتح المعبر أمراً حيوياً لتعزيز التعاون مع مصر، عرابة اتفاق المصالحة، والسماح بالنشاطات الاقتصادية في القطاع حتى لو كان ذلك يعني مكاسب اقتصادية وسياسية لحماس. ولكن خلال سنتين تقريباً، تحطم اتفاق المصالحة بين حماس وفتح، وفي العام 2019 أمر رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، رجاله بالخروج من القطاع.
إن استئناف اتفاق المعابر الآن هو قصة أكثر تعقيداً. فمصر تحاول منذ أشهر كثيرة الدفع قدماً بإعادة السلطة الفلسطينية إلى معبر رفح. والسلطة الفلسطينية مستعدة مبدئياً لإدارة المعبر في الطرف الغزي، شريطة الحصول على صلاحية إدارة كل القطاع في إطار عملية سياسية واسعة تضع الأساس لحل الدولتين.
إدارة معبر رفح بشراكة مصرية ودولية، قد تكون المحك الأول في رحلة طويلة تعفي إسرائيل من السيطرة المدنية في غزة وانجرار إلى احتلال كامل، يشمل أيضاً المسؤولية المباشرة عن حياة السكان في القطاع. ولكن إسرائيل هي التي تضع العائق الذي لا يمكن تجاوزه أمام إعادة السلطة الفلسطينية، برفضها المطلق لتليين المسلمة السياسية التي لن يكون في قطاع غزة أي موطئ قدم لـ سلطة الإرهاب.
لكن حتى الآن لا يوجد لإدارة المعبر ويبدو أنه لن يكون، أي بديل عربي، دولي أو فلسطيني، عن السلطة الفلسطينية أو حماس. وما دامت إسرائيل تتمسك بهذا الموقف، فلا سبب للنقاش في ترتيبات السيادة والإدارة والدفاع، الحيوية لتشغيل المعبر. والنتيجة أن إسرائيل تسيطر على معبر أشباح لا نشاطات فيه، لأن مصر غير مستعدة للتعاون معها، ولا خطة عمل لديها لحل قضية المعبر، رغم أنه بات واضحاً لجميع الاطراف أنه لا مناص من تشغيله بالكامل في الفترة القريبة القادمة؛ للتغلب على الكارثة الإنسانية التي أصبحت عاملاً استراتيجياً رئيسياً يملي استمرار الحرب، وبعد ذلك من أجل خدمة سكان القطاع بعد السماح لهم بالعودة إلى بيوتهم والبدء في إعمارها.