لماذا أغلق نتنياهو قناة الجزيرة؟
الملك ليوبولد وحده في قصره بالعاصمة بروكسل. لقد انتهى لتوه من قراءة الصحف الأميركية وهو في حالة من الغضب الشديد. يتمتم بكلمات: على مدار عشرين عاما لم أفعل شيئا سوى أشياء عظيمة من أجل الكونغو هذه. لقد بنيت سكك حديدية، وشيدت مدنا، وأسست الملاحة البخارية.. ما الذي حصلت عليه كمكافأة؟ لا شيء سوى الإساءة، ولا شيء سوى التشهير.. يصفونني بالطاغية، بالوحش، بالشرير الذي يتعطش للدماء. يقولون إنني مذنب بكل جريمة تحت الشمس.
أنني قتلت ملايين البشر، وبترت أيادي وأقدام الأطفال، وأحرقت قرى، وارتكبت كل فظاعة يمكن تخيلها. يذرع الأرض جيئة وذهابا بغضب) لن أتحمل ذلك! لن أستسلم لمثل هذا السوء! سأدافع عن نفسي! سأصور للعالم أنني رجل صادق، وأنني رجل صالح، وأنني رجل نبيل).
سأغلق قناة الجزيرة، قال “نتنياهو” في محاكاة لفعل أحد مجرمي الإبادة غير المدانين، الملك ليوبولد البلجيكي، الذي قرأنا شطرا من مونولوج مارك توين عنه.
يشترك الظلم مع الظلام في نفس الجذر، وليس جذرهما سوى غياب نور الحقيقة وتغطية الفظائع. وليس أحب إلى طاغية يتلذذ بالتعذيب، من وضع ضحاياه في سجن مظلم معصبي الأعين، وممارسة ساديته في مثل أبراج العصور الوسطى المحصنة الضيقة المظلمة سيئة السمعة. هذا باختصار، الجواب عن السؤال العنوان.
تقع عبر تاريخ الإنسانية مآس وجرائم إبادة، ولئن كان من العته توقع نهايتها، فإن الأمل أن يكون لكل جريمة مترصد بالفضح، إذ لولا ما تيسر من ضوء الشهادات ووسائل الإعلام التي كشفت عنها، لبقيت طي السرية والكتمان جرائم مهولة، ولا تعذيب آنذاك أبشع وأشد وقعا على الفرد والجماعة من أن تظل معاناته طي الظلمة لا يصلها نور، وإن خفت.
في أغلب ما بلغنا من أخبار الإبادة في رواندا، وكمبوديا، والكونغو، وسربرنيتشا، وأفغانستان وغزة، كانت الشهادات الموثقة والصوت والصورة وسيلة هامة لكشف الحقيقة، التي بدونها “لا يمكن أن يكون هناك عدالة، وبدون عدالة، لا يمكن أن يكون هناك سلام” كما تقول حنة أرنت.
جوهر ما تقوم به قناة الجزيرة اليوم في غزة أنها تكشف الحقيقة، وتجلب النور إلى مناطق العتمة، وتفضح الجلاد في عقر أبراجه الضيقة المحصنة المظلمة سيئة السمعة، ورغم المناورة ومحاولة سرد الرواية المضادة وحشد كل الوسائل المادية والإعلامية لها، لم يبق في يد الجلاد حل سوى إغلاق القناة.
تعتمد نظم الإبادة والصهيونية من أشدها غلوا وتطرفا، على الدعاية المستمرة والسيطرة على وسائل الإعلام لأجل التلاعب والتضليل. ولا تسمح لوسائل الإعلام أن تخترق الضباب الدخاني للحروب. ولا للصحفيين الاستقصائيين، الذين يعرضون حياتهم للخطر -استشهد في غزة 140صحفيا فلسطينيا-، بالكشف عن القبور الجماعية المخفية، أو إجراء مقابلات مع الضحايا والناجين، أو توثيق التدمير المنظم.
كان لإدموند موريل دور كبير في نشر جرائم الملك ليوبولد في الكونغو، وأشهرها قطع الأيدي والأرجل وقتل وإبادة ما يقارب نصف سكان الكونغو، أي أكثر من 10 مليون نسمة في الفترة الممتدة من 1885 إلى 1908.
ساعدت لقطات الفيديو للمجاعة في إثيوبيا عام 1984 على توجيه الأنظار نحو هذه الأزمة والحث على التدخل، وأثناء حرب البوسنة لعبت صور المصور الصحفي، نيك دانزيغر التي أظهرت معتقلين نحيلين في معسكرات الاعتقال، دورا حاسما في كشف حملة التطهير العرقي، وفي رواندا عام 1994 قام صحفيون مثل فيليب جورفيتش من “ذا نيويوركر” بتوثيق التوتر المتصاعد واستهداف الأقليات، كما قُدم إلى جانب صناع الأفلام المستقلين، دليل لا يمكن إنكاره على تطور الإبادة الجماعية.
هذه الأدلة، التي تم نشرها على نطاق واسع من خلال وسائل الإعلام، ضغطت على المجتمع الدولي للتحرك، وإن متأخرا. وتخبرنا سامانثا باور، التي وثقت الإبادة الجماعية في كمبوديا، أنه “لا يمكن لوسائل الإعلام أن توقف إبادة جماعية، لكنها يمكنها أن تجعل تجاوزها أكثر صعوبة”، وهذا بالضبط ما قامت به قناة الجزيرة وطواقمها في غزة، ولذلك وجب في بداهة الجاني أن تغلق فورا.
في مونولوج مارك توين عن الملك ليوبولد البلجيكي، أحد مجرمي البشرية، يقول الملك: “لقد كانت (الكوداك) -يقصد آلة التصوير المنتشرة وقتها- كارثة بالنسبة لنا.. كنت محترما كمحسن لشعب الكونغو. ثم فجأة جاء الانهيار”، ولا شك أن إغلاق قناة الجزيرة هو كارثة بكل المقاييس وإيذان بانهيار السردية الصهيونية المتهافتة خاصة وأن الوعي بدل مداه، وطال عقر دار أميركا الدرع والحامية. في هذا السياق، لا يمكن إلا أن نقرأ إغلاق قناة الجزيرة كانتصار آخر يضاف إلى انتصارات غزة.
الخضر حمادي الجزيرة نت