يوم أكل الصليبيون لحوم سكان معرة النعمان.. هل نسيت أوروبا تاريخها؟
كثيرا ما وصم الأوروبيون والغربيون عموما شعوبا أخرى بالهمجية والبربرية والوحشية، لكن تماما كما يقول المثل العربي “رمتني بدائها وانسلت”، فالتاريخ الأوروبي مليء بالحروب والصراعات المدمرة التي مورست فيها أقصى أنواع العنف من تعذيب وحرق وإبادة وأكل لحوم البشر.
ويظهر هذا جليا خلال الحروب الصليبية ولاحقا خلال مرحلة الكشوفات والتوسعات الاستعمارية الأوروبية، بل إن النهضة الأوروبية الحديثة إنما شيدت بقهر شعوب أخرى واستلاب خيراتها واحتلال أراضيها ومسح بعض المجتمعات عن بكرة أبيها، وكل ذلك بإقرار الأوروبيين أنفسهم وبشهادات شهود من أهل أوروبا.
وقد أكدت الدراسة التي أعدتها جامعة كامبردج البريطانية تحت عنوان “تاريخ العنف العالمي” أنه في كل المناطق التي غزاها الأوروبيون أصبح مفهوم “الحضارة” مرادفا للعنف، وغالبا ما استخدم لتبرير الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والاستعباد ضد السكان الأصليين.
وتضيف الدراسة -التي قالت الجامعة إنها أعدتها إسهاما في ما وصفته بالاهتمام الأكاديمي المتنامي بتاريخ العنف باعتباره من القضايا الفكرية الرئيسية في عصرنا- أن الأوروبيين انتصروا على غيرهم بحجة مكافحة الهمجية وجلب الحضارة لإضفاء الشرعية على الاستعمار.
ويقول آميتاف غوش الباحث في جامعة هارفارد في كتاب “التاريخ المضاد للحداثة” إنه خلال الاستعمار الأوروبي تم القضاء على شعوب بأكملها مقابل الحصول على بعض الثروات، معتبرا أن ذلك يثير شكوكا كبرى بشأن حقيقة بعض المفاهيم مثل “الكشوفات الكبرى والحضارة والحداثة”، وهي مفاهيم تخفي وراءها تناقضات كبيرة.
مفهوم العنف
ويعرّف مختصون في مجال القانون العنف بأنه التعدي المتعمد على السلامة الجسدية للشخص، ويمكن أن يوسع نطاق التعريف ليصبح “هو كل سلوك قسري أو استغلالي من شخص لغيره” ليشمل الأبعاد النفسية والاجتماعية والعاطفية، وغيرها.
ويقودنا تعريف العنف إلى تصنيفه بين عنف غير مشروع يدخل ضمن دائرة الظلم، وعنف مشروع، وهو ما تسنه القوانين من عقوبات تحقق العدل وتأخذ على يد الظالم.
وحتى عند الحديث عن الحروب فهي أيضا لها ضوابطها وأخلاقها التي ينبغي أن تراعى شرعا وقانونا، قديما وحديثا.
الحروب الأوروبية
التاريخ الأوروبي عبارة عن سلسلة من الحروب لا تضع واحدة منها أوزارها إلا ليشتعل من أخرى أوارها، ولا يقتصر الأمر على عدد الحروب فحسب، بل إن أوروبا حطمت الأرقام القياسية بالنسبة لأمد الحروب أيضا.
فإذا كانت أطول الحروب في التاريخ العربي المتعارف عليه هي حرب البسوس التي استمرت -حسب المؤرخين- 40 عاما فقد شهدت أوروبا حرب الـ80 عاما وأكثر من ذلك حرب الـ100 عام، هذا إضافة إلى أن التاريخ لم يحدثنا عن حرب واحدة -قبل الحربين العالميتين- راح ضحيتها ملايين البشر إلا حرب الـ30 عاما في أوروبا.
حرب الـ100 عام
اصطلح عليها بحرب الـ100 عام لكنها في الحقيقة دامت أكثر من ذلك، فقد دارت رحاها خلال الفترة من 1337 إلى 1453 بين مملكتي إنجلترا وفرنسا بسبب سعي الأولى لإخضاع الثانية.
وزاد كارثية هذه الحرب ما تخللها من انتشار للأوبئة والطاعون نجمت عنه كوارث بشرية كبيرة عرفت حينها بالموت الأسود.
حرب الـ80 عاما
كانت صراعا مسلحا استمر خلال الفترة من 1566 إلى 1648 وشمل مداه المناطق التي تعرف حاليا ببلجيكا ولوكسمبورغ وهولندا وأجزاء من ألمانيا وشمال فرنسا.
وقد قادت هذا الصراع مجموعات من الهولنديين المتمردين على الحكومة الإسبانية، وانتهت الحرب باعتراف إسبانيا باستقلال هولندا.
حرب الــ30 عاما
تعد واحدة من أكثر الحروب تدميرا في التاريخ الأوروبي، واستمرت من 1618 إلى 1648، وكان ميدانها أوروبا الوسطى، وراح ضحيتها نحو 8 ملايين شخص.
وحسب الروايات التاريخية، فإن ما دق إسفين هذه الحرب هو الانشقاقات والخلافات الدينية داخل الإمبراطورية الرومانية، حيث انقسمت أوروبا إلى جناحين دينيين: كاثوليكي يضم إسبانيا والنمسا، وبروتستانتي يشمل فرنسا وهولندا.
حروب نابليون
لم تكن حروب نابليون (1803-1815) طويلة الأمد بالنسبة للحروب السابقة لكنها كانت كافية لتقلب أوروبا رأسا على عقب، وهي عبارة عن سلسلة من الصراعات أحد طرفيها ثابت وهو فرنسا تحت قيادة نابليون، والطرف الآخر تحالفات أوروبية متغيرة.
وأسفرت المراحل الأولى للحرب عن انتصارات، بل وهيمنة فرنسية على أوروبا وصلت حد السيطرة على عاصمتي روسيا القديمة سان بطرسبورغ والحالية موسكو، لكن تلك السيطرة لم تدم طويلا، وتمكنت التحالفات الأوروبية من احتلال فرنسا وهزيمة نابليون وإسقاط دولته.
أسفرت حروب نابليون خسائر بشرية كبيرة قدرت بنحو 4 ملايين شخص، وتعرضت فرنسا لخسائر كثيرة على جميع الصعد، وسادت فيها حالة من التردي عبر عنها الكاتب الفرنسي فيكتور هيغو بـ”الجحيم البشري” في روايته “البؤساء” التي تتناول مرحلة إسقاط نابليون والعقود اللاحقة لها.
الحربان العالميتان
لا يمكن أن ننهي الحديث عن الحروب الأوروبية دون التطرق بعجالة إلى الخسائر الناجمة عن الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث خلفت الأولى 16 مليون قتيل، في حين قُدّر إجمالي ضحايا الثانية بأكثر من 60 مليون قتيل، وتعتبر الأخيرة أكثر الصراعات العسكرية دموية على مر التاريخ.
نماذج من العنف
استخدم الأوروبيون طرائق غير مسبوقة من العنف، ونورد هنا على سبيل المثال لا الحصر نماذج من ذلك:
أكل لحوم البشر
لو أن فظاعة أكل الأوروبيين لحوم البشر رواها غيرهم لما صدقها أحد ولوُصف راويها بالتحامل، لكن من أوردها هما صحفيان فرنسيان ضمن تقرير منشور في صحيفة “لي بوين” تحت عنوان “12 ديسمبر 1098.. يوم التهم الصليبيون لحوم سكان معرة النعمان”.
ويؤكد التقرير أن غذاء أفراد جيش الصليبيين في حملته للاستيلاء على القدس لم يكن سوى لحوم المسلمين من سكان المدن التي يتم الاستيلاء عليها، وركز التقرير على المجزرة التي راح ضحيتها 20 ألفا من سكان مدينة معرة النعمان يوم دخول الصليبيين إليها في 12 ديسمبر/كانون الأول 1098 ميلادي.
وينقل التقرير عن أحد المشاركين في تلك الحملة أنهم قاموا “بغلي المسلمين في القدور، وحوّلوا لحوم الأطفال إلى أسياخ لالتهامها مشوية”، ويصف آخر ما حدث بقوله “كنا نقطع قطعة أو قطعتين من جثة أحد المسلمين، ومنا من لا ينتظر حتى يحمصها بل يبادر إلى نهشها بأسنانه الوحشية”.
الأمير المخوْزِق
ابتكر الحكام الأوروبيين أصنافا بشعة من التعذيب، ومن ذلك ما عرف عن أحد حكام بلغاريا في القرن الـ15 ويدعى فلاد الثالث والذي لقب بـ”الأمير المخوزِق” بسبب استخدامه الخازوق لتعذيب خصومه، والخازوق عصا غليظة وطويلة يتم إدخاله في الجسم غالبا عن طريق إحدى الفتحتين ويصلب عليها الشخص حتى يموت، ويحرص المخوزق على إدخالها بطريقة تبطئ موت صاحبها فيتألم ساعات طويلة مصلوبا قبل أن تفارقه الروح.
ونسجت حول شخصية هذا المعذب الخارق قصص كثيرة، منها رواية “دراكولا” مصاص الدماء الأشهر للكاتب الإنجليزي برام ستوكر، حيث كان فلاد الثالث يطلق عليه أيضا دراكولا، وهو اسم العائلة التي ينتمي إليها.
الإبادة
في مقال نشره الباحث الفرنسي بجامعة السوربون جيل فيمي تحت عنوان “المستوطنون الأوروبيون.. هؤلاء القتلة” تحدث الكاتب عن ممارسات بشعة قام بها الهولنديون خلال غزوهم أرخبيل باندا الإندونيسي نهاية القرن الـ17.
ويورد الكتاب قصة بشعة عن قيام فرقة عسكرية هولندية بقيادة ضابط يدعى مارتين سونك بحرق قرية مع جميع سكانها في ليلة 21 أبريل/نيسان 1621، وأنه في أقل من شهرين تمت إبادة سكان جزر باندا لإفساح المجال أمام شركة هولندية لاستغلال الأرخبيل.
حرق البشر
وفي السياق نفسه، يبرز ما نشرته مجلة “لوبوان” الفرنسية عن ارتكاب القائد البرتغالي فاسكو دي غاما قائد أول سفن تبحر من أوروبا إلى الهند مذبحة مثلت هي الأخرى واحدة من أحلك صفحات التاريخ الأوروبي، وذلك عندما أشعل النار في سفينة لحجاج مسلمين قادمين من مكة مع نسائهم وأطفالهم، وذهب ضحيتها نحو 400 شخص.
لم يكن الأمر صدفة ولا خطأ، وإنما كان متعمدا وعن سبق إصرار ومعرفة مسبقة أنهم حجاج غير مسلحين، ولم تشفع للنساء والأطفال توسلاتهم حتى أن دي غاما رفض أخذ أي فدية وأصر على حرق سفينتهم أحياء من أجل إهانتهم كمسلمين، مصرحا بأن هدفه أن يتأكد المسلمون أنهم لن يستطيعوا فعل ما يشاؤون في المستقبل، وكان المشهد فظيعا حسب مشاركين في الرحلة، واستمرت السفينة تحترق أيام عدة.
بلاد الأيادي المقطوعة
لكل دولة من الدول العتيقة في أوروبا إسهاماتها الخالدة في مجال العنف، فحسب تقرير لمجلة “لونوفيل أوبسرفاتور” لم تنهب بلجيكا خيرات الكونغو من مطاط وعاج فحسب، وإنما أرغمت السكان على أعمال قسرية للاستنزاف السريع لهذه الثروات.
أصبحت الكونغو في تلك الفترة تعرف ببلاد الأيادي المقطوعة، فقد كانت العقوبة الأكثر شيوعا هي قطع أيدي كل الذكور في أي قرية لم تجلب “ما يكفي” من المطاط أو العاج، وإذا استمرت القرية في عدم توفير “المطلوب” تباد عن بكرة أبيها.
فظاعات في البيرو
شمل عنف الأوروبيين كافة القارات، فمثلا في البيرو بأميركا الجنوبية كانوا يجبرون الرجال على جمع كميات كبيرة من عصارات الأشجار المحلية أو ما أطلق عليه ذهب الأدغال الأبيض، حيث تجمع تلك العصارات لإنتاج المطاط البري الذي كثر عليه الطلب بعد اكتشاف السيارات، فإذا لم يأت الرجال بالمطلوب يوميا تغتصب نساؤهم ويحرق أطفالهم.
مجزرة سربرنيتسا
وغير بعيد منا ما زال أنين ضحايا المجازر التي تعرض لها البوسنيون في حرب البلقان يصم الآذان، ونذكر من ذلك على سبيل المثال مجزرة سربرنيتسا التي وقعت في يوليو/تموز 1995 وقتل فيها الصرب أكثر من 8300 مسلم.
العنف المقدس
سعى الأوروبيون إلى أن يلبسوا كل تصرفاتهم الوحشية تجاه الآخر لبوسا دينيا، فقائد الكشوفات أو التوسعات الاستعمارية الأوروبية كريستوفر كولومبوس كان يحلم بالعثور على كنوز من الذهب في رحلته إلى الهند ليموّل بها حملة صليبية تنتزع القدس من المسلمين، هذا ما أوردته باحثة الأنثروبولوجيا الأميركية كارول ديلايني في كتابها “كولومبوس والتطلع إلى القدس”.
وفي السياق نفسه، تتحدث كتابات أخرى عن أن رحلة فاسكو دي غاما كانت أيضا بدوافع دينية، حيث يعتبر الكاتب البريطاني نايجل كليف في كتابه “حروب مقدسة” أن الدافع الديني كان المحرك الحاسم لحملة الاستكشافات الجغرافية البرتغالية التي استمرت 80 سنة.
ومعلوم ما تعرض له المسلمون في أوروبا من تنكيل وبطش باسم الدين، سواء خلال الحروب الصليبية أو ضمن محاكم التفتيش لاحقا، خصوصا في إسبانيا، حيث تم قتل وشواء عشرات الآلاف من المسلمين.
ومنذ سقوط الحكم الإسلامي في الأندلس أصبح مصير المسلمين في أوروبا إما الحرق، أو الارتداد عن دينهم واعتناق المسيحية، وفي الخيار الأخير قد لا يصدقون فيعدمون أيضا.
حدث ذلك مع أنه في المقابل يشهد الدارسون الأوروبيون أنه خلال 7 قرون سيطر فيها المسلمون على أجزاء معتبرة من أوروبا استمر النصارى يمارسون دينهم بكل حرية وكانت لهم كنائسهم وأسقفهم.
الصهيونية المسيحية اليهودية
مما يغذي العنف الديني لدى الأوروبيين ذلك التحالف بين بعض المجموعات الدينية المتطرفة مع نشوء ما باتت تعرف بـ”الصهيونية المسيحية اليهودية” التي تروج لبعض الأفكار والتنبؤات المستقبلية للتعاطي مع بعض القضايا وتبرير بعض السياسات، وهو ما تناولته الكاتبة الأميركية غريس هالسل في كتابها “النبوءة والسياسة.. الإنجيليون العسكريون في الطريق إلى الحرب النووية”.
وتقول في الكتاب إن رجال دين مسيحيين ويهودا يسعون إلى ترسيخ الإيمان لدى الغربيين بمسألة نزول المسيح لتخليص العالم من الشرور عبر معركة يقودها تسمى معركة هرمجدون يُقتل فيها نحو 200 مليون إنسان.
وتضيف أن ذلك لن يحدث إلا بعد عودة اليهود إلى فلسطين وإنشاء دولتهم القومية، وتشير تلك التنبؤات إلى أن شرارة تلك المعركة ستكون بناء الهيكل على أطلال المسجد الأقصى.
هذه العقيدة هي التي تفسر سكوت الغرب وربما تواطؤه مع ما يمارسه الاحتلال الإسرائيلي منذ نشأته، والتي ترافقت مع تشكيل عصابات الأرغون والهاغانا التي ارتكبت عددا من المجازر والمذابح قبل تأسيس إسرائيل.
وواصل الاحتلال مسيرته مع كل أشكال العنف والانتهاكات التي أفرزت مجازر ستبقى حاضرة في ذاكرة التاريخ، من دير ياسين والطنطورة وصبرا وشاتيلا والمسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي وصولا إلى مذبحة مستشفى المعمداني ومجزرة مخيم جباليا، وما نشاهده يوميا مند بدء العدوان على غزة من مجازر ترتكب بدعم وإسناد وغطاء غربي أوروبي.
المصدر: الجزيرة