فخ غزة.. مقال يحذر إسرائيل من نصيحة ديفيد بترايوس
قالت مجلة “فورين أفيرز” إن الجيش الإسرائيلي الذي ينوي سحب ألوية تتألف من عدة آلاف من جنوده من غزة، بدلا من الإشارة إلى نهاية القتال، ينذر بالدخول في مرحلة جديدة من الصراع، قد يتحول فيها ما بدأ كحرب تقليدية إلى شيء مختلف تماما، وهو ما يسمى حملة لمكافحة التمرد.
وأوضحت المجلة –في مقال بقلم كولن بي كلارك- أن نهج مكافحة التمرد يعتمد على قوات العمليات الخاصة، والضربات الدقيقة والغارات المستهدفة، و”أن يحتفظ الجيش الإسرائيلي بالأراضي بعد تطهيرها من مقاتلي حركة المقاومة الإسلامية (حماس)”، عملا بنصيحة ديفيد بترايوس الجنرال الأميركي المتقاعد والمدير السابق لوكالة المخابرات المركزية.
بيد أن قول ذلك أسهل من فعله -حسب الكاتب- إذ تشير الأبحاث التي أجريت حول حملات مكافحة التمرد السابقة إلى أن مثل هذا النهج في غزة من شأنه أن يؤدي إلى مستنقع يمكن أن يمتد لسنوات عديدة، بحيث تتكيف حماس مع واقعها الجديد من خلال الاعتماد على شبكة أنفاقها تحت الأرض، واستخدام البنية الأساسية المدمرة لصالحها، مما يسهل استهداف الجنود الإسرائيليين الذين يقومون بدوريات راجلة.
ويرى الكاتب أن تطبيق رؤية بترايوس لمكافحة التمرد في غزة سيكون بمثابة كارثة بالنسبة للجيش الإسرائيلي، وسوف يتهم الفلسطينيون وغيرهم إسرائيل بإعادة احتلال الأراضي، كما تزيد الغارات ونقاط التفتيش من تطرف المدنيين، وبالتالي تهميش الأصوات الفلسطينية المعتدلة، وإلهام انتفاضة بعيدة المدى وتحفيز محور المقاومة لشن هجمات على أهداف في إسرائيل وأماكن أخرى، أي أن حملة مكافحة التمرد في غزة من شأنها، بدلا من إنهاء العنف، أن تنتج حربا لا نهاية لها.
أهداف سياسية
ولا تزال نهاية اللعبة الإسرائيلية في غزة مجهولة، ولكن الاحتلال الممتد المقترن بنهج مكافحة التمرد يمكن أن يكون الفصل التالي في الصراع، كما تدل على ذلك تصريحات القادة الإسرائيليين، إذ قال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إن الحرب على حماس لن تنتهي حتى تحقق إسرائيل جميع أهدافها.
وقال وزير الدفاع يوآف غالانت إن الحملة العسكرية “ستستمر طالما كانت ضرورية”، وقال رئيس الأركان هرتسي هاليفي إن الحرب في غزة ستستمر “لعدة أشهر”، ولكن إذا تبنت إسرائيل نهج مكافحة التمرد، فقد تتحول الأشهر بسهولة إلى سنوات.
ووفقا للكاتب، فإنه حتى من دون اتخاذ هذا الاختيار عمدا، فإن إسرائيل قد تجد نفسها بداخله، كما حدث للولايات المتحدة في فيتنام والعراق وأفغانستان، حيث سمح توسع المهام بأهداف محدودة لإفساح المجال أمام أهداف أكثر غموضا وأكثر طموحا.
ففي أفغانستان مثلا، بدأت الحرب بنية تدمير تنظيم القاعدة، لكن واشنطن وجدت نفسها في نهاية المطاف تحاول القيام ببناء الدولة، وفي النهاية فشلت في تحقيق كلتا المهمتين.
ومن ثم، فإن المستنقع الذي يواجه إسرائيل في غزة اليوم -كما يرى الكاتب- يمكن أن ينتهي بطريقة مشابهة لما واجهته في جنوب لبنان، حيث انسحبت بعد عقدين من الزمن دون إزالة تهديد مقاتلي حركة التحرير الفلسطينية، بل ومع ظهور عدو جديد يتمثل في حزب الله اللبناني.
ولكن نتنياهو -كما يقول الكاتب- لديه حافز شخصي لإطالة أمد الحرب بعد أن اتضح أن العديد من الإسرائيليين يريدون قيادة سياسية جديدة، ولذلك أعلن أن المتطلبات الأساسية للسلام بين إسرائيل والفلسطينيين تتلخص في “ضرورة تدمير حماس ونزع سلاح غزة واستئصال التطرف في المجتمع الفلسطيني”، وهي أهداف يتطلب تحقيق أحدها سنوات من القتال والنجاح غير مضمون في النهاية.
وبعد مرور أربعة أشهر على الحرب، بدأ صبر بعض أعضاء القيادة العسكرية الإسرائيلية ينفد بسبب عدم وجود نهاية سياسية متماسكة، وقد أعرب غالانت عن إحباطه لعدم وجود خطة لما يبدو عليه الصراع بخلاف “تدمير حماس”، قائلا “من واجب مجلس الوزراء والحكومة مناقشة الخطة وتحديد الهدف”.
هزيمة إستراتيجية
وإذا تبنى الجيش الإسرائيلي نهج مكافحة التمرد في غزة، فإنه سيكون على خلاف مباشر مع التوصيات السياسية لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن التي حذرت من احتلال غزة بعد الحرب، وتضغط لتقليص الحملة العسكرية بسبب مقتل أكثر من 27 ألف فلسطيني، كثير منهم من النساء والأطفال، وقد قال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن “في هذا النوع من القتال، يكون مركز الثقل هو السكان المدنيون. وإذا دفعتهم إلى أحضان العدو، فإنك تستبدل النصر التكتيكي بهزيمة إستراتيجية”.
ونبه الكاتب إلى أن إسرائيل ليست لديها إستراتيجية سياسية محددة لما سيحدث بعد الحرب، خاصة أن نتنياهو يعارض فكرة استعادة السلطة الفلسطينية السيطرة على غزة، خلافا لموقف إدارة بايدن.
ورجح أن ينتهي الأمر بإسرائيل إلى القيام بدوريات في غزة، في حين تستعد حماس وغيرها من الجماعات الفلسطينية لصراع طويل الأمد ومنخفض الحدة، تواجه إسرائيل خلاله هجمات كر وفر وكمائن مميتة وقناصة يعملون من تحت أنقاض المباني المهدمة.
أما إذا احتل الجيش الإسرائيلي غزة، وانتقل إلى مهمة مكافحة التمرد، فسوف يكون ذلك في مصلحة حماس -كما يرى الكاتب- وستكون إستراتيجية حماس هي محاولة إرهاق الجيش ببطء حتى يطالب الجمهور الإسرائيلي بالانسحاب، وعند هذه النقطة ستعلن حماس النصر، مثل ما وقع مع الولايات المتحدة في أفغانستان.
ويبدو أن إسرائيل ليست لديها أي نية لكسب “القلوب والعقول”، وأن المسؤولين وخاصة نتنياهو وحلفاءه اليمينيين المتطرفين، يتجاهلون الجوانب السياسية لهذا الصراع، مما يقدم لحماس فرصة لملء فراغ السلطة وتعزيز وترسيخ نفسها في غزة.
وخلص الكاتب إلى أن هذه هي الدروس التي كان من المتوقع أن إسرائيل تعلمتها من تجربتها في لبنان، ومن احتلالها السابق لغزة، ولكن العناصر اليمينية المتطرفة في الحكومة الإسرائيلية التي تتمتع حاليا بنفوذ هائل، تدفع نتنياهو إلى التفكير في احتلال غزة إلى أجل غير مسمى بحجة غياب حكومة فلسطينية مناسبة.
لا نهاية في الأفق
واستنتج كولن بي كلارك أن على إسرائيل إذا تبنت هذه الإستراتيجية، أن تستعد لحرب طويلة المدى، وأوضح أن بحثا قام به بالتعاون مع عدد من الباحثين في مؤسسة “راند”، على كل حركات التمرد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى عام 2009، وعددها 71، أظهر أن متوسط طول هذه الصراعات 10 سنوات، خاصة مع وجود دولة راعية للتمرد.
وفي بحثهم حول مكافحة التمرد، وجد الكاتب وزملاؤه أن الجيوش التي تبنت نهج “القبضة الحديدية” لمكافحة التمرد بالتركيز حصريا -تقريبا- على قتل المتمردين، كانت ناجحة في أقل من ثلث الحالات التي تم تحليلها، وهي أقل نجاحا من المقاربات التي ركزت أيضا على تخفيف مظالم السكان المدنيين.
وتبدو مكافحة التمرد خيارا جذابا بالنسبة لإسرائيل، لأنها تسمح لقادة البلاد بتأجيل القرارات السياسية الصعبة والتركيز بدلا من ذلك على الانتصارات العسكرية قصيرة المدى، ولكن أحد الأسباب التي وضعت إسرائيل في مأزقها الحالي –حسب الكاتب- هو تأخير السياسيين الإسرائيليين، وعلى رأسهم نتنياهو، باستمرار ورفضهم لأي تسوية تفاوضية مع الفلسطينيين.