زعيم المعارضة التركية العلماني الذي سقط بالإنتخابات يواجه عصياناً علنياً
كان من المتوقع أن تكون للانتخابات التركية الأخيرة تداعيات على المشهد السياسي الداخلي ولا سيما داخل الأحزاب الأساسية التي خاضتها، لكن اتضح سريعاً أن حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، سيستأثر بحصة الأسد منها.
فحزب العدالة والتنمية فاز مع تحالفه الحاكم بالانتخابات، وبالتالي تجنب حصول هزات كبيرة داخله وبات أكثر أريحية في عملية التغيير والتجديد الداخلية. والحزب الجيد، ثاني أحزاب المعارضة، تخطّى مؤتمره العام بدون تغييرات كبيرة وبتحديد الثقة برئيسته ميرال أكشنار، والأحزاب الحديثة التأسيس كانت قد فازت بعدد مقبول من مقاعد البرلمان بالنسبة لها، وبالتالي كانت النتائج مُرضية بالنسبة لها. أما حزب الشعوب الديمقراطي، الذي كان خارج منظومة التحالفات، فشهد بعض الحراك البسيط غير المؤثر حتى اللحظة.
أما الهزات الأساسية فكانت حكراً تقريباً على حزب الشعب الجمهوري، أو بالأحرى رئيسه كمال كليتشدار أوغلو، فالأخير تحمّل وحُمّل الجزء الأكبر من مسؤولية نتائج الانتخابات، التي شملت خسارة الرئاسة وعدم الفوز بأغلبية البرلمان، بل حمّلته بعض الأطراف المسؤولية كاملة عما حصل، من باب أنه فرض مسألة تقديمه مرشحاً توافقياً لتحالف المعارضة، وكان المسؤول الأول وأحياناً الوحيد عن عدة قرارات بخصوص التحالف، بما في ذلك التفاهم الذي أبرمه مع رئيس حزب النصر المتطرف أوميت أوزداغ قبيل جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية بدون الرجوع لرؤساء الأحزاب الأخرى.
قبل أيام، أكد كليتشدار أوغلو ما كان ادعاه أوميت أوزداغ بوجود “بروتوكول إضافي سري” للاتفاق بينهما قبل جولة الإعادة، فقد كان أوزداغ ادعى أن كليتشدار أوغلو وعده برئاسة جهاز الاستخبارات وثلاث وزارات، وكان الناطق باسم حزب الشعب الجمهوري نفى ذلك سابقاً، ليؤكد كليتشدار أوغلو نفسه وجود بروتوكول سري دون أن يعطي أي تفاصيل.
تصريح زعيم المعارضة تسبب بردات فعل حادة من الأحزاب التي تحالفت معه قبل الانتخابات، بما في ذلك تعبيرات عن “الندم” على التحالف معه و/أو ترشيحه للرئاسة، إضافة لاتهامات بعدم المهنية واللا أخلاقية في مسألة إبرام هذا الاتفاق السري دون إطلاع رؤساء باقي الأحزاب عليه.
شكلت هذه المواقف ضغوطاً إضافية على كليتشدار أوغلو الذي يواجه معارضة قوية داخل حزبه؛ يقودها رئيس بلدية إسطنبول الكبرى أكرم إمام أوغلو.
على مدى سنوات ومع خسارة عدة مناسبات انتخابية، تعرض رئيس حزب الشعب الجمهوري لمعارضة داخلية أكثر من مرة، كان آخرها بقيادة المرشح الرئاسي السابق محرم إينجة وانتهت بانشقاق الأخير وتأسيس حزب البلد.
بيد أن ما يواجهه الرجل حالياً أقوى وأشمل من كل ما واجهه سابقاً، إذ لا يقف إمام أوغلو وحيداً في المواجهة الحالية، فهناك عدة شخصيات معارضة بارزة مثل رئيس بلدية بولو الذي قاد مسيرة نحو المركز العام للحزب مطالباً باستقالة رئيسه، إلا أن التيار الأقوى بقيادة إمام أوغلو.
يقول إمام أوغلو ومن معه إن التغيير على مستوى تركيا -بمعنى انتصار المعارضة مستقبلاً على العدالة والتنمية- مرهون بحصول تغيير حقيقي وكبير في المعارضة وحزبها الأكبر، بما يعني تغيير قيادة رئيسه الذي حُمّل ضمنياً مسؤولية الخسارة الأخيرة ومسار الفشل المستمر أمام أردوغان.
انتقادات إمام أوغلو انتقلت مؤخراً للعلن بعد عدة لقاءات جمعته برئيس الحزب وعدم القدرة على الوصول لتفاهم محدد فيما يبدو. فالتيار المعارض يرى رحيل كليتشدار أوغلو ضرورة، فيما يرى فريق رئيس الحزب أن هذا سيعطي انطباعاً سيئاً عن الحزب، وبالتالي الأفضل ترك الأمر ليحسم في المؤتمر العام القادم للحزب في الخريف المقبل.
ووفق هذه الرؤية، بدأ كليتشدار أوغلو وفريقه سلسلة قرارات وإجراءات تحت عنوان التغيير، من بينها تغيير العدد الأكبر من أعضاء اللجنة المركزية وعدد من رؤساء فروع الحزب في المحافظات، بينما رأى فيها إمام أوغلو تصفية المحسوبين عليه أو المطالبين بالتغيير بهدف تعزيز فرص رئيس الحزب في إعادة انتخابه في المؤتمر القادم.
وفيما يسعى كليتشدار أوغلو للوصول لمحطة المؤتمر العام في أفضل ظروف بالنسبة له، يحاول إمام أوغلو زيادة الضغط عليه للاستقالة قبله.
أهم محطة في هذا المسعى مؤخراً كان اجتماعاً بطريقة الفيديو كونفرانس ترأسه رئيس بلدية إسطنبول مع عدد من قيادات الحزب، أهمهم رئيس كتلته البرلمانية وعدد من نواب رئيس الحزب سابقاً (الذين أطاح بهم كليتشدار أوغلو بعد الانتخابات). تناول الاجتماع، وفق مقاطع سربت للإعلام، المؤتمر العام القادم للحزب وقرار قيادة الأخير عزل رؤساء فروع الحزب في ست محافظات، وجمع توقيعات من أعضاء اللجنة المركزية للحزب للاعتراض على هذا القرار والدعوة لاجتماع طارئ لمجلس الحزب.
وصف الناطق باسم حزب الشعب الجمهوري الاجتماع بأنه غير أخلاقي، نافياً علم رئاسة الحزب به، بينما قال إمام أوغلو إنه اجتماع “طبيعي جدا” بين قيادات وكوادر في الحزب لمناقشة أمور حزبية، مشيراً لتنظيم زهاء 200 اجتماع مماثل حتى اللحظة ومؤكداً على أن “هذه الاجتماعات ستستمر”.
استبق رئيس الحزب دعوات التيار المعارض لاجتماع استثنائي لمجلس الحزب بعقد اجتماع للأخير، وثبّت فيه القرارات السابقة بعزل عدد من رؤساء فروع الحزب، ما يعني أن المواجهة بين الجانبين باتت صفرية في المرحلة الحالية، في ظل غياب أي لقاءات تجمعهما أو محاولات حقيقية للوساطة بينهما.
في المحصلة، تحولت الاعتراضات الضمنية والانتقادات الهادئة لرئيس حزب الشعب الجمهوري إلى معركة كسر عظم معلنة بين تيار الأخير والتيار المطالب بالتغيير بزعامة رئيس بلدية إسطنبول.
قانونياً، ليس في يد الطرف الثاني سوى زيادة الضغوط على كليتشدار أوغلو لإحراجه ودفعه للاستقالة، وإلا فجمع كل أوراق القوة داخل الحزب لمنافسته في المؤتمر العام القادم.
الإشارات التي يرسلها كليتشدار أوغلو توحي بإمكانية صموده في وجه المطالبات بالاستقالة الآن، على ألا يترشح في المؤتمر العام، وبذلك يكون “رباناً مسؤوليته إيصال السفينة للمرفأ” على حد تعبيره (وهو ما نرجحه)، لا سيما أنه في الخامسة والسبعين من العمر وكان ألمح عدة مرات إلى أن الانتخابات السابقة هي محطته السياسية الأخيرة ليفتح المجال بعدها للشباب.
فهل يفعلها؟ أم تدفعه حالة الصراع الداخلية الحالية للتشبث بكرسي الرئاسة في الحزب؟