قصة الحملة الإماراتية لتشويه شخصيات إسلامية وجماعات خيرية في الغرب وتدمير حياتهم
نشرت مجلة “ذي نيويوركر” تحقيقا مطولا أعده الصحافي ديفيد دي كيركباتريك، حول لعبة التأثير ودور شركات التحقيق الأمني في التجسس والقرصنة على الأفراد والمؤسسات المسلمة في الغرب.
وتحدث التحقيق عن أحد رجال الأعمال، وهو المصري- الأمريكي حازم ندا، نجل رجل الأعمال يوسف ندا (86 عاما)، الذي وُصف عادة بأنه وزير خارجية الإخوان المسلمين، وبنى ثروة كبيرة من ليبيا والنمسا والولايات المتحدة وسويسرا، وانتمى للإخوان وهو في سن الشباب، في الإسكندرية عام 1947، ثم سجن بعد المواجهة بين الإخوان والضباط الأحرار، لكنه خرج إلى المنفى، وأقام مملكته التجارية التي انهارت بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 على الولايات المتحدة، حيث اتهمته حكومة الرئيس المصري حسني مبارك بالإرهاب، وهو وصف تبنته إدارة جورج دبليو بوش، حيث وُضع ندا على قوائم أوروبية وقوائم وزارة الخزانة الأمريكية وجُمدت حساباته، وخاض حربا طويلة لتنظيف سمعته وكسب دعاوى قضائية ضد صحيفة إيطالية.
وقاد مسؤول سويسري حملة لدعم قضيته، حيث تم رفع اسمه من قائمة الخزانة الأمريكية في عام 2015، وذلك عبر رسالة مختصرة تخبره بأن الظروف التي أدت لوضع اسمه لم تعد قائمة، وتوصلت محكمة أوروبية بأن الحظر على ندا الأب خرق حقوقه الشخصية.
ويبدو أن الابن حازم استُهدف نظرا لنسبه، فهو لم يزر مصر إلا مرة واحدة، ولم يكن راغبا بالعودة إليها. تخرج حازم من جامعة رتغرز، وأحب الفيزياء النظرية، وأكمل دراسته في كامبريدج وإمبيريال كوليج في بريطانيا، وحصل على الماجستير والدكتوراة بنفس المجال.
لم تكن تجذبه السياسة، وهو متدين بالفطرة، أمريكي الهوية، وُلد في سيلفر سبرينغ بولاية ميريلاند، وهو معجب بثقافة الهيب هوب الأمريكية، تزوج امرأة سعودية التقاها وهي في رحلة سياحية إلى أمريكا.
بدأ حازم أعماله بصناعة الطاقة، وأنشأ شركة “لورد إنيرجي”، حيث حصلت على عملاء في كوريا وأفريقيا ومناطق أخرى. وبدأت محنة حازم (34 عاما) الذي يعيش في كومو بإيطاليا، بعد رسالة نصية عام 2017، تسأله عن “خدمة العملاء”، حيث شكّ بأن هناك شخصا ينتحل صفة ندا، وقادر على نسخ سجل مكالماته. وبعد بضعة أسابيع، نبهه مدير حسابه في بنك كريدي سويس، أن محتالا لا يبدو مثل ندا، في صوته خنة ويتحدث مثل طفل، قد اتصل هاتفيا وطلب تفاصيل مصرفية، ويقول الصحافي: أخبرني ندا أنه بدأ يشعر أن هناك من يحاول الاحتيال عليه.
وأشار الكاتب إلى شركة ندا التي عمرها تسعة أعوام، وتتاجر بالمواد السائلة والجافة كما يشي اسم “لورد”. وصنع حازم مكانة له في السوق وتوسعت شركته من لوغانو في سويسرا إلى كومو في إيطاليا وسنغافورة وهيوستن الأمريكية، وبلغت قيمتها ملياري دولار، وتفوقت في النهاية التجارة على اهتماماته الفيزيائية.
كان حازم ندا يحلم مرة بدخول صناعة السيارات الكهربائية للتكفير عن ذنب ثلويث الكرة الأرضية بالوقود. وفي خريف سنة 2017، تلقى مكالمة أخرى مزيفة، حيث اتصل رجل تظاهر بأنه يمثل “سيتي بنك” وطلب معلومات مصرفية عن لورد إنيرجي، مدعيا أنه يريد القيام بعملية دفع.
بعد ذلك، في كانون الأول/ ديسمبر من نفس العام، ظهر اسم الشركة بشكل غير متوقع في موقع إلكتروني يسمى “أفريكا إنتليجنس”، وكان المحتوى ظاهريا يتعلق بتأخير مغادرة ناقلة لورد إنيرجي من الجزائر، حيث أبقى ندا الناقلة في البلاد لإجراء صيانة سريعة، لكن “أفريكا إنتليجنس” قالت إن السلطات الجزائرية منعتها. والأغرب من ذلك، أن المقال ألمح إلى أن التأخير كان مرتبطا بانهيار بنك والده بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001. والمثير في الأمر أن ندا عندما أسس لورد إنيرجي في 2008 حاول الإثبات لكل مصرف بأن مشروعه لا علاقة له بوالده، والآن تزعم مجلة “أفريكا إنتليجنس” بأنه مرتبط بالعائلة.
اعتقد ندا في البداية أنها مؤامرة من منافس، ثم ظهر مقال عام 2018 زعم أن شركة “لورد إنيرجي” هي واجهة لخلية إخوانية. وقال كاتب المقال، الصحافي السويسري سيلفان بيسون، إن “أبناء القادة التاريخيين للتنظيم، تحولوا نحو الاستثمار في قطاع النفط والغاز”، هذا إلى جانب مقالات أخرى على هذا المنوال، وإضافات لمحتوى لورد إنيرجي في ويكيبيديا لا علاقة لها بعملها.
ثم بدأت المحنة، بعد ستة أشهر من أول محتوى لموقع “أفريكا إنتليجنس”، قامت منظمة “وورلد تشيك” وهي قائمة التحقق العالمية وقاعدة بيانات تعتمد عليها البنوك لفحص هوية العملاء، بإدراج كل من حازم ولورد إنيرجي ضمن الفئة الخطيرة التي لها علاقة “بالإرهاب”، وانسحبت خمس مؤسسات مالية من المفاوضات مع ندا، وألغى بنك “يو بي إس” السويسري حسابه الشخصي، وحتى الحساب الخاص بوالدته.
وبعد تسعة أيام، حذفت “وورلد تشيك” اسمه من القائمة، وكتب أحد محامي الشركة رسالة اعتذار إلى ندا جاء فيها أنه “تم ارتكاب خطأ” لكن الضرر حدث. ففي كانون الثاني/ ديسمبر 2018، قطع مصرف “كريدي سويس” الذي تعاملت معه “لورد إنيرجي” لفترة طويلة علاقاته معها. وبرر المصرف في زيارة من ديك مارتي، المدعي العام السويسري السابق الذي ساعد والد حازم، عدم التعامل بأن ظهور شبهة الإرهاب، وإن كانت غير صحيحة، تمثل خطرا على سمعة المصرف. ومن هنا يعتقد مارتي أن حملة من المزاعم غير الصحيحة دمرت ثروة يوسف ندا، ويتكرر نفس السيناريو الآن مع الابن حازم.
وعلى الرغم من أن مارتي كان يعرف سبب كره مبارك ليوسف ندا، إلا أنه لم يستطع فهم استهداف حازم، حيث قال مارتي: إنه ليس من المتشددين.
ونظرا للضغوط على الشركة، سرّحت موظفيها ولم تعد قادرة على تمويل أعمالها، وبدأ حازم يعاني من نوبات الخوف والقلق، وأوقفت الشركة عملياتها وقدمت طلبا للحماية من الإفلاس.
ويشير الكاتب في تقريره المطول والحافل بالمعلومات، إلى أن ندا أخبر الشرطة السويسرية التي توصلت إلى أنه شخص يعاني من الرهاب، ولكنّ ندا اطّلع في غياب المحقق الذي كان يريد إغلاق الملف، على نسخ من طلبات الحصول على سجلات حول “لورد إنيرجي” ومسجد محلي، تم التقدم بهما من قبل شركة استخبارات خاصة مقرها جنيف، تعرف باسم “ألب سيرفيسز” التي أسسها ماريو بريرو، الملقب باسم “البابا” في عام 1989، وحاول ندا الكتابة إليها مرارا دون رد.
وقد استفاد بريرو من المناخ الجديد بعد 9/11 والطلبات التي بدأت تتوالى عليه من البنوك من أجل فحص عملاء في قضايا أمنية وأخرى عادية، وحاول احتكار السوق ومنع أي منافس مثل شركة “ديليجنس” البريطانية التي حاولت فتح فرع لها في سويسرا.
لكن بريرو لم يكن غريبا عن المشاكل القانونية في فرنسا وأمريكا، وقد استفاد من كل هذا لتحسين سمعته واستقبال العملاء من كل أنحاء العالم، أوليغارش روس، ومن أفريقيا وشيوخ من الشرق الأوسط.
وهنا يدخل ندا عالم القرصنة، حيث حاول قراصنة سرقوا معلومات من الشركة هذه بيعه إياها مقابل 30 مليون دولار من العملات المشفرة، ورفض لأنه لم يكن لديه المال ولا يريد أصلا التورط معهم لأسباب قانونية.
وعثر ندا على أدلة عن عدم قلق بريرو من اختراق خصوصية الآخرين، وأشار التقرير للطرق القذرة التي استخدمها للحصول على المعلومات، رشاوى من داخل مصرف، وعاهرة بملابس داخلية، وإرسال أخرى إلى مسؤول ضريبة سويسري وغير ذلك.
ومن هنا، اكتشف ندا أن يدا خفية وراء ما حدث له، منافس نفطي مثلا. وعثر على الجواب بأن الشيخ محمد بن زايد، حاكم الإمارات، هو من خطط لكل هذا.
وكان الاستهداف من تداعيات الخلاف القطري- الإماراتي عام 2017، وإنفاق البلدين ملايين الدولارات على شركات العلاقات العامة للحصول على تأثير في العواصم الغربية، وتسابقت الشركات الأمنية الخاصة للاستفادة من هذه الأزمة.
وذكرت نشرة الصناعة “إنتليجنس أونلاين” أن السعودية والإمارات وقطر، أصبحوا يتفوقون بسرعة على الأوليغارش الروس كعملاء رئيسيين لشركات التحقيق الخاصة الدولية. وأبرمت “ديليجنس”، الشركة التي حاول بريرو التفوق عليها في جنيف، عقودا مع قطر. ومن الواضح أن شركة بريرو قد أوصي بها للإماراتيين من قبل رولان جاكار، الصحافي الفرنسي، اللبناني المولد، والمستشار المتقطع للحكومة الفرنسية الذي زعم أنه خبير في التطرف السري للمسلمين الأوروبيين.
وشملت الملفات التي تم اختراقها على مذكرات مكتوبة بخط اليد لجاكار حول الاستعداد لحملة ضد قطر والإسلاميين الفرنسيين، وتظهر السجلات المالية أن شركة “ألب” دفعت له عمولة قدرها 10% عن عقودها الإماراتية، ومثل غيره، لم يستجب جاكار لطلبات التعليق.
ويصف الكاتب هنا بداية الأزمة الخليجية تلك بقرصنة وحملات تضليل، وفي آب/ أغسطس 2017، وصل بريرو إلى فندق فيرمونت في أبو ظبي كضيف هناك، وكان قد أعد مذكرة من 14 صفحة لإقناع الإماراتيين بالدفع له لمواجهة قطر وحلفائها من الإخوان المسلمين.
وكتب بريرو في ملاحظاته: نهدف إلى تشويه سمعة أهدافنا من خلال نشر المعلومات المحرجة والسامة، لكن بتكتم وعلى نطاق واسع، حيث سيظهرون في أعين وسائل الإعلام والمسؤولين بأنهم منحرفون أو فاسدون أو متطرفون.
وكان عميله الاسمي، مؤسسة إماراتية تدعى “أرياف للدراسات والبحوث”، لكن ملفات “ألب” توضح أن الفواتير ذهبت إلى محمد بن زايد آل نهيان، وخاطب بريرو مضيفه باسم مطر، والصور التي أخذها له أحد عملاء شركة ألب في اجتماعات في أبو ظبي تتطابق مع مسؤول إماراتي يدعى مطر حميد النيادي.
التقى بريرو في وقت لاحق مع مطر في فندق بور أو لاك، في زيوريخ، جنبا إلى جنب مع رئيس مطر المشار إليه في الملفات باسم “سعادة” أو “علي”. والتقط شخص ما في شركة ألب صورا للرئيس في ذلك الاجتماع، وهي تتطابق مع صور علي سعيد النيادي، المساعد الوزاري للشيخ طحنون بن زايد، مستشار الأمن القومي الإماراتي، وشقيق محمد بن زايد.
وأرسل بريرو خطابا رسميا يشكر فيه “سموّكم” على “شرف تقديم خدماتنا لبلدكم”. وأرسل “تحياته الحارة” إلى “صاحب السمو”، محمد بن زايد آل نهيان.
وقال بريرو إن الحصول على المعلومات عن الإخوان مكلف جدا نظرا لسرية الجماعة، ولم يظهر اسم ندا بداية في الملفات، حيث اقترح بريرو التركيز على الأسماء المعروفة، وتشويه وتدمير سمعة المفكر طارق رمضان. ونجح عرض بريرو، حيث وافقت الإمارات على ميزانية أولية من أربعة إلى ستة أشهر بمليون ونصف المليون يورو للحصول على دليل ملموس حول علاقة قطر بالإخوان المسلمين في أوروبا، بحسب ما تظهر السجلات المالية للشركة.
ولعل ظهور اسم حازم جاء من حوارات الصحافي بيسون مع صحيفة “لوتون”، حيث ألف كتابا عن والده “غزو الغرب: المشروع السري للإسلاميين”، وهو يقوم على نظرية المؤامرة المعادية للإسلام.
وجرى اتهام حازم بناء على أدلة عرضية، وعلاقاته مع أخته التي تعيش في قطر حيث يعمل زوجها، وكذا أبناء أصدقاء والده ليس إلا. ولم يكن من بين هؤلاء أي إسلامي سوى عضو برلمان جزائري، ومدرس لغة إيطالية حيث كانت زوجته تدرس.
ومع ذلك، كتب بريرو عن لورد إنيرجي بأنها كيان مهم للتنظيم العالمي للإخوان، وكشف لاحقا أن معلومات بيسون عن ندا، هي من فبركة بريرو، وكذا ما ظهر في أفريكان أنتلجنس.
كما استغلت شركة “ألب” أموال الإماراتيين لوضع معلومات مزيفة عن لورد إنيرجي في ويكيبيديا. وفي 31 أيار/ مايو 2018، دفعت شركة بريرو لنينا ماي، الكاتبة المستقلة في لندن، 625 جنيها إسترلينيا مقابل خمس مقالات عبر الإنترنت، نشرت بأسماء مستعارة، واعترفت الصحافية ماي للكاتب بأنها عملت مع شركة “ألب” في الماضي، لكنها وقّعت اتفاقية لعدم الكشف عن الاتفاق.
وتفاخر عملاء شركة “ألب” للإماراتيين بأنهم نجحوا في إحباط جهود ندا لتصحيح العبارات المسيئة عن الشركة في ويكيبيديا. وفي رسالة في تموز/ يوليو 2018، كتب بريرو قائلا: تعودت شركة لورد إنيرجي أن تظهر كشركة لتجارة السلع الأساسية، ولها نشاط تجاري مشروع. ويُنظر إليها اليوم بسبب جهودنا كشركة مشبوهة للإخوان المسلمين، ولها علاقات بتمويل الإرهاب.
ويقول الكاتب إنه مع مرور الوقت، كان بريرو يتلقى من الإمارات 200 ألف يورو شهريا لتحديد مواقع الأهداف ومهاجمتها في جميع أنحاء أوروبا، مع رسوم إضافية لمشاريع جانبية لمرة واحدة، ولكنه طالب بالمزيد، وعرض خطة خمسية، وبات ينفق على الصحافيين والباحثين المشاركين في الحملة، وهم كثر.
وبعد تدمير شركة “لورد إنيرجي” أقنع بريرو الإماراتيين بدفع المال له لملاحقة المزيد من الأشخاص في قائمة أعدها الباحث الأمريكي- الإيطالي لورينزو فيدينو، المهووس بتشويه الإخوان.
وبحلول تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، اقترح بريرو على الإماراتيين أكثر من خمسين هدفا أوروبيا محتملا. ومنها حملة ضد منظمة الإغاثة الإسلامية العالمية، وهي مؤسسة خيرية دولية، تأسست سنة 1984 على يد طالب طب مصري في بيرمنغهام البريطانية، لجمع الأموال من أجل المجاعة في شرق إفريقيا.
ورغم ما سيق من اتهامات للمنظمة، إلا أنها تعمل بالشراكة مع الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية والحكومات الأوروبية. لكن الإماراتيين وضعوها عام 2014 أي بعد عام من انقلاب مصر، على قائمة من المنظمات “الإرهابية” المحظورة، إلى جانب مجلس العلاقات الأمريكية- الإسلامية، والجمعية الإسلامية- الأمريكية، وعدد من الجمعيات المدنية الغربية الأخرى التي كان الإخوان المسلمون من بين مؤسسيها.
وشملت خدمات بريرو عمليات انتقامية نيابة عن الإماراتيين، مثل التحقيق في لجنة الخبراء المتعلقة باليمن، والتي توصلت عام 2018 لإمكانية ارتكاب أبو ظبي جرائم حرب هناك. وكلف الإماراتيون بريرو بالتحقيق في أعضاء اللجنة، وخاصة رئيسها كمال الجندوبي، وهو مدافع عن حقوق الإنسان من أصول تونسية فرنسية مشتركة، ويحظى باحترام كبير. وتمت مهاجمته من خلال اتهامه بأنه أداة في يد قطر.