هل تخلى النظام السوري عن مسؤولياته تجاه مواطنيه؟
تستمر تداعيات أزمة شح المحروقات في مناطق سيطرة نظام الاسد، منذ مطلع ديسمبر الجاري، بمفاقمة معاناة السوريين، إذ أدت الأزمة إلى شلل شبه تام في حركة المواصلات، وتسببت في زيادة ساعات قطع الكهرباء لتصل إلى 22 و23 ساعة يوميا.
وها هي الآن تتسبب في توقف نصف الأفران الخاصة بالعاصمة وريفها عن العمل لانخفاض مخصصاتهم الحكومية من مادة المازوت وندرتها وارتفاع سعرها في السوق السوداء، مما انعكس على أسعار الخبز السياحي والصمون التي سجلت ارتفاعا كبيرا.
وقال الرئيس السابق لجمعية حلويات دمشق بسام قلعجي إن نصف الأفران الخاصة في دمشق توقفت عن العمل، بينما تعمل 30% منها بشكل متقطع بحسب توفر مادة المازوت، وتظل باقي الأفران على رأس عملها عبر شراء المحروقات بأسعار مرتفعة، إن وجدت.
وأضاف قلعجي في حديث ﻹذاعة “شام إف إم” المحلية، الأحد الماضي أن الشركة السورية لتخزين وتوزيع المواد البترولية “سادكوب” توزع المحروقات على الأفران بما يكفي لنحو 5 ساعات عمل يوميا، وتسلم المحال كمية محدودة من المادة تتراوح بين 25 و40% من حاجتها.
وسجلت أسعار الخبز السياحي والصمون في دمشق وريفها ارتفاعا بنسبة 40%، وبلغ سعر ربطة الخبز السياحي 3500 ليرة بدلا من ألفي ليرة، بينما سجل سعر كيلو الصمون 6 آلاف ليرة (1 دولار) بدلا من 4 آلاف ليرة.
وتلجأ كثير من العائلات في مناطق سيطرة النظام إلى شراء الخبز السياحي، نظرا لانخفاض المخصصات الحكومية من الخبز المدعوم (3 أرغفة للفرد في اليوم) وارتباطها بآلية بيع تستلزم توفر “بطاقة ذكية” ووقوف المواطنين لساعات أحيانا للحصول على مستحقاتهم من الخبز، وهو ما يتعارض مع التزاماتهم في العمل أو الدوام الوظيفي.
ومع تفاقم الأزمات الخدمية وانعكاسها على مختلف القطاعات تصبح مهمة الشريحة الأكبر من السوريين في تحصيل قوت يومهم أكثر مشقة؛ حيث الانخفاض المستمر للقوة الشرائية لرواتبهم -التي بلغ متوسطها ما يعادل 25 دولارا- مع استمرار انهيار الليرة أمام العملات الأجنبية ليلامس سعر صرف الدولار عتبة 6 آلاف ليرة أمس الأربعاء.
فما دلالات تفاقم الأزمات في مناطق سيطرة النظام إلى هذا الحد غير المسبوق؟ وهل تخلت الدولة عن مسؤولياتها تجاه رعاياها؟
انفراج قريب أم تفاقم للازمة؟
وفي محاولة لاحتواء أزمة شح المحروقات والمشتقات، قررت حكومة النظام تعطيل جميع مؤسسات الدولة -باستثناء القطاع الصحي- يومي الأحد 11 و18 ديسمبر الجاري، ومع تفاقم الأزمة عادت الحكومة لإقرار عطلة تبدأ من 25 الشهر الجاري إلى نهاية العام.
ورغم عدم توفر المحروقات في محطات الوقود وتأخر صرف المخصصات من مادتي المازوت والبنزين للمنشآت العامة والخاصة وللمواطنين، فإن وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك أقرت زيادة في أسعار المحروقات، الثلاثاء الماضي.
وسجل سعر لتر المازوت المدعوم 700 ليرة بدلا من 500، ولتر المازوت الصناعي 3 آلاف ليرة (نصف دولار) بدلا من 2500، ولتر البنزين 4900 ليرة بدلا من 4 آلاف.
وعن رفع الحكومة لأسعار المحروقات، علق رئيس مجلس الوزراء في حكومة النظام حسين عرنوس -في مؤتمر صحفي الأربعاء: كنا أمام خيارين إما فقدان المشتقات النفطية من الأسواق المحلية أو رفع سعرها وتأمينها ضمن الممكن.
وفي ختام المؤتمر الصحفي، طمأن عرنوس المواطنين أنه خلال شهر ستكون هناك انفراجات وسيكون واقع المشتقات النفطية أفضل في الأسواق المحلية.
في حين يرى عادل العوا، الباحث والخبير الاقتصادي السوري، أن كلام عرنوس عن الانفراجات لا يعدو أن يكون “جعجعة بدون طحين” هدفها شراء بعض الوقت وامتصاص الغضب الشعبي.
وأوضح أن البنك المركزي السوري إن لم يكن مفلسا، فهو ليس لديه ما يكفي من العملات الأجنبية للمحافظة على استقرار توريدات المشتقات النفطية.
وأضاف العوا أن سلاسل التوريد الخاصة بالمشتقات النفطية أو النفط الخام من شمال شرقي سوريا أو إيران إلى مناطق سيطرة النظام تتعرض لضغوطات ومعوقات كبيرة خارجة عن إرادة الحكومة، كتلك التي رأيناها مع ناقلة النفط الإيرانية لانا، التي تم توقيفها من قبل قاعدة أميركية لشهور في اليونان قبل أن تصل إلى الشواطئ السورية.
ويتابع العوا: في حين لا يبدو أن حكومة النظام تملك ما يكفي من العملات الأجنبية للمحافظة على استقرار التوريدات من المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” التي تتعرض أساسا لضغوطات تركية، فحتى عندما تم تأسيس شركة “بي إس” (B.S) بغضون ساعات، قبل أيام قليلة، واختيرت كمتعاقد حصري لبيع مادتي المازوت والبنزين وتم رفع سعر المادتين، فإنها سرعان ما عادت وأعلنت عن عدم توفر ما يكفي من المادتين.
ويرى العوا أن هذه الأزمات التي تعصف بمناطق النظام تختلف عن سابقاتها، سواء على مستوى دعم حلفاء النظام (إيران وروسيا) الذي بات خجولا، ومنها ما يتعلق بالعقوبات الغربية، ومنها ما يتعلق بتعنت النظام إزاء الحل السياسي، وعلى مستوى الحلول الاقتصادية التي باتت محدودة جدا وستصبح أكثر محدودية مع تفعيل قانون “الكابتاغون” الأميركي وتطبيق إستراتيجيته.
أزمات مركبة تفاقم المعاناة
وانعكست أزمة شح المحروقات على مختلف القطاعات العامة والخاصة في البلاد، مما أدى إلى جمود جزئي في بعض الأعمال وكلي في أخرى؛ وبالتالي التسبب في تسريح أعداد متزايدة من الأجراء والعاملين.
في حين يعاني الطلبة والموظفون والعاملون في القطاعين العام والخاص صعوبات بالغة في الوصول إلى أعمالهم وجامعاتهم ومدارسهم والعودة منها، وسط أزمة مواصلات خانقة ضاعفت من أجرة وسائل النقل.
كما طالت أزمة شح المحروقات المدن الصناعية الكبرى في دمشق وحلب وغيرها من المحافظات، حيث أقرت وزارة الصناعة بالتنسيق مع وزارة الكهرباء، الأربعاء، نظام “تقنين كهربائي” على المدن الصناعية يمتد إلى 72 ساعة قطع أسبوعيا، في ظل ما سمته الوزارة قلة التوريدات وزيادة الضغط على منظومة الكهرباء.
وكان من تداعيات الأزمة ارتفاع أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية في الأسواق السورية بنسب تتراوح بين 30 و60% خلال الأيام القليلة الماضية.
وأرجع رئيس جمعية حماية المستهلك في دمشق عبد العزيز المعقالي -في تصريح لصحيفة الوطن المحلية الاثنين الماضي- ارتفاع الأسعار إلى ارتفاع تكاليف نقل البضائع وانقطاع المحروقات.
ويقول الحاج أبو عمار (62 عاما)، متقاعد من دمشق: لم يعد بالإمكان توفير الحد الأدنى من الاحتياجات اليومية لمنزلنا في ظل هذه الظروف، إن راتب الـ93 ألف ليرة (15.5 دولارا) الذي أتقاضاه كمتقاعد لم يعد يكفي لإعداد وجبتي طعام، وراتب ابني البالغ 220 ألف ليرة (36.5 دولارا) تبخر في اليومين الأولين من هذا الشهر.
ويشير أبو عمار إلى الصعوبات التي تواجهها أسرته في ظل انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة قائلا: الاستحمام بات معضلة، والتدفئة معضلة، والطهي معضلة، لقد بات كل شيء يشكل لنا معضلة، ولا يبدو أننا سنجد لها حلا إن استمر الوضع على ما هو عليه.
وإلى جانب أبو عمار، يعاني ملايين السوريين في مناطق سيطرة النظام من عجز في تأمين قوتهم اليومي، فضلا عن الأدوية الضرورية والمستلزمات الأساسية ووسائل التدفئة لمواجهة الشتاء القارس مع انقطاع التيار الكهربائي وتوقف شركة “محروقات” عن توزيع مخصصات المواطنين من المازوت.
في حين يرزح 90% من السوريين تحت خط الفقر، ويعاني 80% منهم من انعدام الأمن الغذائي منذ عام 2021، حسب تقارير أممية.
احتجاجات ودعوات للإضراب
وتزامنا مع تفاقم أزمة شح المحروقات، خرجت مظاهرتان في محافظة السويداء (جنوبي البلاد)، خلال الأسبوع الماضي، تنديدا بالواقع المعيشي والسياسات الحكومية، وارتفع سقف المطالب ليردد المتظاهرون شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، في مشهد يعيد إلى الذاكرة مظاهر الاحتجاج في ثورة مارس/آذار 2011.
وعلى الرغم من الحزم الذي أبدته الأجهزة الأمنية في قمع الاحتجاج من خلال إطلاق أعيرة نارية تجاه المتظاهرين أدت إلى مقتل أحدهم، فإن مناف (39 عاما)، ناشط حقوقي من السويداء، يرى أن المحافظة لا تزال على صفيح ساخن، وأن المحتجين في هدوء حذر بانتظار “وضوح الرؤية” وحشد أعداد أكبر للعودة إلى ساحات التظاهر.
ولا يتوقع مناف أن تمتد رقعة الاحتجاجات إلى مناطق أخرى في البلاد، حيث إن للسويداء وضعا خاصا يميزها عن غيرها من المحافظات السورية، فكون المكون الرئيس فيها من الأقلية الدرزية، فإن النظام يتخوف من إطلاق عملية قمع واسعة تؤدي إلى تفجر الأوضاع في المحافظة، وهو ما يناقض سرديته القائمة في ركن أساسي منها على حماية الأقليات، بينما يمكنه ضرب أي منطقة أخرى بحجة مكافحة الإرهاب.
في الأثناء، دعا ناشطون سوريون عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى إضراب عام واعتكاف بمناطق سيطرة النظام السوري يوم 22 ديسمبر/كانون الأول الجاري، احتجاجا على تردي الوضع المعيشي وغياب الحلول.
وكان سوريون تداولوا -عبر مواقع التواصل- دعوة للإضراب جاء فيها “لقد وصل الحال في سوريا إلى أسفل السافلين من جوع وفقر وذل وهوان، وغابت جميع مقومات الحياة، لذا قررنا كمجتمع سوري مدني، البدء بهذا الاعتكاف”.