متسولون محترفون في المغرب
منذ أيام قليلة مضت، وقبيل عيد الفطر بيوم أو على أكثر تقدير ثلاثة أيام، شهدت أبواب المساجد وباحاتها في المغرب تناسلا كبيرا للمتسولين، يصطفون في صفوف أو يتفرقون حسب رؤية كل واحد منهم «لغنيمة» الصدقة وخاصة «الفطرة» وهي زكاة الفطر كما تسمى في البلاد.
المغاربة اعتادوا رؤية هذا المشهد كلما اقترب عيد الفطر أو في مختلف المناسبات الدينية التي يطلق عليها «العواشر» والكل يعرف جيدا أن هؤلاء لا يتسولون بدافع الحاجة، بقدر ما هي حرفة امتهنوها، لأنها مدرة لدخل سهل وكثير ولا عناء فيه سوى الجلوس وإطلاق الحنجرة بما تيسر من أدعية أو إظهار بعض الأوراق المهترئة التي هي في الأصل وصفات طبية وتحليلات، الله أعلم بمصدرها وصاحبها وغالبا تكون منتحلة.
ويشهد المغرب ثلاثة أنواع من المتسولين: البعض يتسول من أجل لقمة العيش، مثل كبار السن والنساء اللائي لا موارد لهن ولا عائلات. لكن البعض الآخر متسول محترف، ليس لديهم إعاقة جسدية أو ذهنية، نشاطهم الوحيد هو التسول، لأنهم يريدون كسب المال بسهولة. أما الفئة الثالثة فتتمثل في ضحايا شبكات التسول، وهم غالبًا أطفال صغار جدًا وذوو احتياجات خاصة.
وهكذا صار التسول مهنة، لا تحتاج إلى شهادة أو خبرة أو معدات، فقط القليل من الأدعية وادعاء الأمراض وإظهار الإعاقات والكثير من «قلة الحياء» ثم الوقوف أمام أبواب المساجد أو المرور بالمقاهي وأمام أبواب المخابز والمحلات التجارية الكبرى وحتى الصيدليات وخلافها من ضروب اليومي المجتمعي في المغرب.
لكن المثير أن لكل مقام فئته التي تعرف كيف تستل الدراهم من جيوب المواطنين، فالواقف أمام المخبزة ليس هو الواقف أمام محل تجاري أو مسجد وهكذا، التخصص هو أساس هذه «المهنة» ولا يمكن «التطفل» أبدا فهو «فن» يجيده «خبراء» مد اليد والذي يجب أن يتساوق بداية بالهندام وخلافه من أساسيات المتسول المحترف.
حديث التسول في المغرب ترافقه دائما الطرائف والنكات المعبرة، فبلاغة المغربي تعبر ضفاف المشاهد وتجسد في كلمات معدودة موقف لا يمكن تصويره إلا في فيلم سينمائي، وهنا يحضر فيلم فرنسي قبل سنوات بعيدة، في أحد مشاهده تصدّق عابر سبيل على جالس فوق الرصيف معروف بأنه متسول، لكن هذا الأخير رفض قبول تلك الصدقة، لأنه لا يشتغل يوم الأحد.
الواقعة نفسها، تتكرر بشكل آخر، حين يأخذ المتسول عطلة نهاية الأسبوع ويصادف وجوده في الحافلة أحد المتصدقين الدائمين، كلاهما في المركب نفسه وكلاهما يأخذ أسرته في جولة أسبوعية وشرب فنجان قهوة وأكل بعض السندويتشات في مطعم «هامبورغر» أو «طاكوس» أو «بانيني» او حتى «بيتزا» ولم لا.
تلك الحافلة التي يكون ضمن ركابها متسولون يوميا، حكى سائقها أنه نصح سيدة تتسول بالعمل، وأكد لها توسطه من أجل قبولها، لكن ردها كان «منطقيا» وصادما في الوقت عينه، صاحبة الجلباب شبه الممزق أخبرت السائق الذي رأف لحالها، أن دخلها اليومي من «السعاية» كما يقول المغاربة، يبلغ 150 درهما (حوالي 15 دولارا) في الأوقات العصيبة فقط، أما في أوقات الرخاء يتجاوز ذلك المبلغ بكثير.
انتهت مهمة السائق، وعليه أن يفهم أن المال الساهل يغري أصحاب الأكتاف الباردة، كما عليه أن لا يتدخل في شأن هؤلاء الذين لا يتسولون بدافع الفاقة بل رغبة في الكسب اليسير حتى ولو أراقوا ماء وجههم فيه.
أرقام صادمة
أمام هول وتزايد الظاهرة، لم تكن الأرقام سوى مخيفة وصادمة أيضا، وعبّر المغاربة عن دهشتهم لكنهم في الواقع يعرفون أنها تحيل على التناسل بهدف التحايل ولا تحيل على واقع الفقر الذي يعانيه هؤلاء الذين زادوا من حجم الكتلة في الإحصائيات.
وتشير دراسة إلى أن 43 في المئة من المتسولين متزوجون، و26 في المئة منهم أرامل، أما فئة العزاب فتشكل 20 في المئة، و11 في المئة مطلقات ومطلقون.
وزارة الأسرة والتضامن ورئاسة النيابة العامة كشفا منذ ثلاث سنوات عن معطيات، وجاء فيها أن هناك 195 ألف متسول بالمغرب، منهم 10 آلاف شخص تمت متابعتهم بجنحة التسول.
الأرقام المذكورة رافقتها وما زالت دعوات لوقف استغلال الأطفال مثلا في التسول من طرف نساء وحتى رجال، لأن هناك من يؤجّر فلذة كبده باليوم، ويظل في الشارع تلفح رأسه شمس الظهيرة وتنزل على جسده الصغير الأمطار ويلفه البرد من كل جانب.
المجتمع المغربي يعي جيدا أن هؤلاء عليهم أن يكفوا عن ما يشبه ابتزازهم بعاهات مصطنعة أو أمراض كاذبة أو فقر مزعوم، يعرفون أن نصف المتسولين هم فئة أرادت رغبة وليس اضطرارا أن تفترش الرصيف وأن تمد يدها للعابرين.
طبعا، لا أحد ينفي أن هناك من يتوسل عن حاجة، لكنهم الفئة المستضعفة في هذا الميدان، لأنهم أقلية ويضيعون وسط موجة «الظاهرة الاحترافية» إن جاز التعبير.
حوادث واعتقالات
لا يخلو هذا الموضوع كما أشرنا من طرائف وغرائب وعجائب، أحدثها واقعة اعتقال سيدة في اكادير تحترف التسول وتمتلك سيارة رباعية الدفع.
الحكاية كادت أن تصنف في خانة العجب العجاب: سيدة متوسطة العمر وميسورة وتمتلك منزلا في منطقة بمدينة اكادير، تقود سيارتها رباعية الدفع إلى مكان بعيد عن محل سكناها وترتدي نقابا وثيابا رثة وتترك سيارتها الفارهة، وتجوب الأحياء وتجلس على الأرصفة وتطلب الصدقة، وعند نهاية اليوم أي دوام «عملها» في التسول تعود إلى سيارتها ومنزلها وأبنائها.
الواقعة كانت موضوع تدخل الأمن المغربي الذي أوقف المعنية بالأمر، وأحالها على القضاء الذي أصدر حكمه بالسجن 6 أشهر نافذة في حق المتسولة التي عرفت في الإعلام المغربي بـ «مولات الكاط كاط» أي صاحبة السيارة رباعية الدفع.
إلى جانب هذه الحادثة، تحضر حوادث أخرى مثل المتسولة التي ماتت فوجدوا لديها مبلغا ماليا ضخما يبدو أنها حصيلة تسولها لسنوات. هذه الحكاية بالضبط لها مثيلاتها في دول عربية أخرى حين تموت المتسولة ويتم العثور على ثروة مخبأة تحت وسادتها أو في ركن من أركان بيتها المتهالك.
وروت صحيفة إلكترونية قصة متسولة اسمها «زهرة» (70 عامًا) تحترف التسول في شوارع الدار البيضاء ومقاهيها ومتاجرها. مع مرور الوقت، تمكنت من جمع 110318 درهمًا نقدًا (أكثر من 10800 دولار أمريكي) وشراء ستة أساور ذهبية بقيمة 40.000 درهم (3943 دولارا) بالإضافة إلى منزل تملكه وآخر كان في مرحلة الصفقة أثناء القبض عليها.
عندما كانت «تعمل» بجوار مسجد، جرى القبض عليها بواسطة عناصر من الشرطة البلدية واقتيدت إلى مركز اجتماعي يأوي المشردين والعجزة ومحترفي التسول. بعد التحقيق مع العجوز المتسولة، اكتشف المسؤولون أنها لم تكن لديه قط بطاقة هوية وطنية. ومن ثم، استخرجت لها بطاقتها في ذلك المركز الاجتماعي لأول مرة، لكنها رفضت خصم تكلفة بطاقة الهوية من أموالها. وللحيلولة دون تعرضها للسرقة، قام مسؤولو المركز بأمر من المدعي العام وبتفويض من عائلتها بفتح حساب مصرفي لها لاستثمار «ثروتها». وحين سُئلت عن خططها بعد مغادرة المركز الاجتماعي، أجابت: «يجب أن أذهب لأجمع بعض المال لشراء منزل جديد».
التسول الرقمي
بعد أن أصبح الافتراضي عالما موازيا للواقع، لم يسلم بدوره من ظواهر مجتمعية يعج بها اليومي، والحديث هنا عن التسول الذي صار له محترفوه في الشبكة العنكبوتية.
لكن المتسول الرقمي تحميه عوالم الافتراض من إراقة ماء وجهه أثناء طلب الصدقة أو التبرع أو خلافه من ضروب الاحتيال الهادف أساسا إلى جمع المال ولو بالكذب.
قد تصادف فتاة كما يبدو من صفحتها في فيسبوك، تضع صورة تجريدية أو لوحة أو وجه ممثلة، وتراسلك على الخاص وبعد السلام والتحية والاحترام مباشرة إلى طلب التعبئة، وهي الفئة التي تعتبر أخف ضررا من تلك التي تطلب شراء أدوية أو دفع فاتورة كهرباء أو إجراء عملية جراحية أو ببساطة فعل الخير والاحسان من أجل أسرة تعيش في العراء. والواقع أنه لا وجود لأسرة ما، فقط هناك وجود لنية النصب والاحتيال على رواد تلك المواقع من أجل مبلغ محترم سيضيع حتما في ملذات عابرة، سيصرف كما جاء بسرعة وبسهولة.
المتسول الرقمي يعرف من يقصد، فهو يدرس جيدا «بروفايل» الضحية قبل أن يفاتحه بالموضوع ومن ثم يشرع في اختلاق كذبة كبرى على مقاس الوجع الإنساني.
صنف آخر يراودك في البريد الإلكتروني ويستهل رسالته بتقديم نفسه، ويشرح أنه خجل قبل أن يفاتحك في الموضوع، لكنه مضطر لأنه «تقطع به الحبل» أي وجد نفسه في ورطة مالية.
لكن هناك دائما الرسائل المباشرة، يذهب صاحبها أو صاحبتها مباشرة إلى الهدف، وهي طلب المال من أجل قضاء غرض من أغراض الدنيا فيها الكثير من الأجر والثواب في الآخرة.
الحديث عن احتراف التسول ليس مجرد ملاحظات عابرة يسجلها المواطن وهو يتجول أو يشرب قهوته أو يتبضع، بل أكدتها دراسات بحثية ميدانية.
ومنها نذكر الدراسة التي أنجزتها الرابطة المغربية لحماية الطفولة منذ سنوات، والتي أشارت بما لا يدع مجالا للشك، أن ظاهرة التسوّل في المغرب تحولت إلى حرفة.
ووفق الدراسة، فإن فئة الأطفال هي الأكثرُ احترافا لهذه المهنة، خاصة من هم أقل من 12 سنة.
الدراسة أجرتها الرابطة بتعاون مع مديرية التعاون الوطني وبدعم تقني من وزارة الصحة المغربية، في عدد من المدن المغربية ومنها نذكر العاصمة الرباط، وجارتها مدينة سلا، والضواحي مثل الصخيرات وتمارة.
وأبرزت الدراسة أن نسبة الذكور المتسولين أكثر من الإناث، حيث يشكلون ما نسبته 56 في المئة، أما الإناث فنسبتهم لا تتجاوز 44 في المئة تقريباً، أما فيما يتعلق بما يجنونه فيتراوح ما بين 50-100 درهم تقريباً.
وتناولت ظاهرة تسول الاطفال الذين تقل أعمارهم عن 12 سنة من خلال ثلاث فئات من الأشخاص. شملت الفئة الأولى أطفالا تقل أعمارهم عن سبع سنوات ويتسولون مع مرافقين لهم (نحو 273 طفلا). وضمت الفئة الثانية أطفالا ما بين ثماني سنوات و12 سنة يتسولون دون مرافقين (نحو 230 طفلا) وأما الفئة الثالثة فكانت من غير المتسولين لمعرفة آرائهم حول الظاهرة (289 شخصا).
وبالنسبة لهذه الدراسة، فإن الأسباب الرئيسة التي تدفع هؤلاء إلى التسول تتمثل في المشاكل الاجتماعية المترتبة على الطلاق أو تخلي الوالدين والإهمال أو غياب أو وفاة الوالدين وسوء المعاملة والتحرش الجنسي بالإضافة إلى عوامل ثقافية تتمثل في التعود على التسول أو الانتماء إلى عائلة تحترف التسول.
الأكيد أنه لا داعي للتحامل على المتسولين، فمنهم فئة دفعها الفقر إلى ذلك، وهي التي تستوجب عطف الناس، لكن الحابل اختلط بالنابل وضاع من يستحق في وسط زحمة المحتالين على مهنة ذات دخل سهل وغير متعب.