الانسحاب الفرنسي من مالي إعادة انتشار أم هزيمة غير معلنة؟
رغم التوتر الشديد الذي شهدته العلاقات بين باريس وباماكو في الفترة الأخيرة، أعلن الإليزيه الأربعاء الماضي أن الرئيس ماكرون سيتحول إلى مالي الاثنين 20 ديسمبر/كانون الأول الجاري، للقاء الرئيس الانتقالي لمالي الكولونيل أسيمي غويتا.
وتأتي هذه الزيارة المرتقبة مع انسحاب آخر جندي من القوات الفرنسية الثلاثاء الماضي من قاعدة تمبكتو العسكرية التي تم تسليمها إلى الجيش المالي، بعد 9 سنوات من الانتشار في المنطقة.
وجاء الانسحاب في إطار مراحل إنهاء قوة “برخان” في الساحل الذي أعلنته فرنسا في يونيو/حزيران الماضي، والقاضي بتنظيم قواتها العسكرية وتسليم 3 من قواعدها “تيساليت وكيدال وتمبكتو” في شمال مالي.
وقال الجنرال الفرنسي إتيان دو بيرو قائد قوة برخان في مالي لوكالة الصحافة الفرنسية إن “فرنسا ستكون حاضرة بشكل مختلف”، مضيفا: أن هدف مهمة برخان في نهاية المطاف هو تمكين مالي من أخذ مصيرها بيدها لكن دائما في إطار شراكة.
في حين صرّح الكابتن فلوريان الذي كان يتولّى قيادة المعسكر قبل عملية التسليم “بالنسبة إلينا، إنّها صفحة تطوى لكنّ المهمّة مستمرة”، مشيراً إلى مواصلته مع جنوده المهمّة في مالي.
في السياق نفسه، وإجابة عن سؤال خطوات المرحلة الثانية للانسحاب، صرح قائد عملية مكافحة الجهاديين في منطقة الساحل الجنرال لوران ميشون لنفس المصدر بأن المرحلة الثانية ستبدأ في الأشهر الستة القادمة، وستشمل إعادة هيكلة كل من القيادة والقوات، لا سيما في مالي.
وأضاف: كنا حوالي 5 آلاف عسكري فرنسي في منطقة الساحل في صيف 2021، وسنصبح نحو 3 آلاف في صيف 2022. سيكون هناك عدد أقل بكثير من القوات التقليدية ومزيد من القوات الخاصة التي تعمل ضمن قوة تاكوبا الأوروبية. هناك الآن نحو 900 عنصر في القوة والأوروبيون يواصلون تقديم طلبات الانضمام. يعد هذا الانخراط الأوروبي نجاحا سياسيا لمنطقة الساحل ومالي.
من جانبه، أكد رئيس قسم العلاقات الدولية والاقتصاد السياسي في مركز جنيف للدراسات ناصر زهير أن الانسحاب الفرنسي من قاعدة تمبكتو يأتي في إطار سياسة وإستراتيجية جديدة تتبعها فرنسا وضمن إعادة تموضع وليس لسبب عدم استجابة السلطات المالية الجديدة للتعاون مع باريس.
وأضاف قائلا: في المقابل فرنسا تعتقد أنها تقوم بمعاقبة السلطات الجديدة في مالي ولا تريد أن تتحمل بمفردها النتائج السلبية للتطورات الأخيرة في هذا البلد الأفريقي. وبذلك هي تحاول التأكيد من خلال هذه الخطوة على ضرورة إعادة التموضع وعلى رسالة للاتحاد الأوروبي بضرورة الوجود بشكل أكبر في منطقة الساحل إذا أراد محاربة الإرهاب بجدية. وهي أيضا رسالة مباشرة إلى الولايات المتحدة.
منافسة شرسة
وتابع زهير في السياق نفسه: فرنسا اليوم تواجه منافسة شرسة على أفريقيا من قبل القوى العالمية، وخاصة روسيا والصين وتركيا وحتى الولايات المتحدة الحليف التقليدي، وبالتالي لا يمكن لفرنسا أن تستمر بعقلية “إما أنا أو لا أحد”، لذلك يجب عليها أن تتصرف بعقلانية من أجل إدارة المصالح والصراع في أفريقيا. وبالتأكيد فرنسا خسرت كثيرا من المصالح في هذا الصراع بين القوى العالمية الجديدة في القارة.
ويشار إلى أن عملية إعادة الانتشار والتنظيم هذه تأتي، وفق العديد من الملاحظين، في سياق اجتماعي وسياسي متوتر، توتر بين باريس والمجلس العسكري المالي، وعلامات على رفض السكان المحليين للوجود العسكري الفرنسي، وحملات مناهضة للفرنسيين على شبكات التواصل الاجتماعي. في حين نفى الجنرال لوران ميشون ضمن التصريحات السابقة نفسها هذا السخط الشعبي، وشدد على أنه حيثما توجد “برخان” على الأرض، يكون السكان سعداء بالأمن الذي توفره.
وأما المحلل السياسي وأستاذ العلاقات الدولية في باريس فرج معتوق، فشرح العوامل الخفية لإعادة الانتشار فضلا عن أسباب الانسحاب وتبعاته وارتداداته المستقبلية، بالتأكيد على أن انسحاب فرنسا من مالي ليس تسليما نهائيا بهزيمتها، إذ إنها لا يمكن أن تتخلى عن آخر مربع لها بمنطقة غرب أفريقيا التي كانت لوقت غير بعيد من ضمن مستعمراتها.
ويرى أنه انسحاب تكتيكي وإعادة انتشار إستراتيجي، خاصة بعد الخسائر التي تكبدتها قواتها في الأرواح من جهة، وانعدام الثقة بينها بين السلطات المالية التي أتى بها انقلاب مايو/أيار 2021 من جهة أخرى.
وأضاف قائلا: فضلا عن انعدام الثقة بين مالي وفرنسا، يأتي قرار الانسحاب على خلفية شعور متنام بعداء لدى الرأي العام تجاه الوجود العسكري الفرنسي بمنطقة غرب أفريقيا أصلا، والسبب هو اتهام القوات الفرنسية بحمايتها لبعض المجموعات المسلحة الانفصالية بمنطقة كيدال. وفي المحصلة أصبحت باريس متهمة في أعين الماليين برعاية وتدريب إرهابيين مسؤولين عن إشعال نار الفتنة والتفرقة بين القبائل والمجموعات الإثنية داخل البلاد.
وفي حين يراهن ماكرون على المساعدات المالية والعسكرية التي تمنحها باريس للسلطات المالية كورقة ضغط على باماكو في لقائه المرتقب مع نظيره المالي، يبقى موضوعا خلاف باريس مع باماكو الأساسيان هما الاتصالات المالية مع مجموعة فاغنر الروسية والجدول الزمني السياسي للمرحلة الانتقالية، حيث كان من المقرر إجراء الانتخابات في فبراير/شباط، ويبدو ذلك مستبعدا في ظل الظروف الحالية.
وفي وقت سابق، صعّدت فرنسا لهجتها تجاه مالي وحذرتها من أن نشر مرتزقة روس في منطقة الساحل قد يكون “غير مقبول”. وهو قلق مشترك بين واشنطن وشركاء فرنسا الأوروبيين في منطقة الساحل.
وبعد الولايات المتحدة، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على مجموعة فاغنر، فضلا عن 8 أشخاص و3 شركات مرتبطة بها بسبب “أعمال لزعزعة الاستقرار” في دول أفريقية عدة بينها مالي، وكذلك في أوكرانيا.
قدرة روسيا على التموقع
وفي السياق نفسه، يشرح أستاذ العلاقات الدولية بباريس الخطر الذي يتهدد المصالح الفرنسية والأوروبية في أفريقيا جراء التحولات الإقليمية في المنطقة، وخاصة الوجود الروسي، قائلا: هناك قناعة لدى فرنسا وكذلك لدى الاتحاد الأوروبي من ورائها بأنه ليس لروسيا الرغبة فقط لكي تحل محل فرنسا بأفريقيا، بل كذلك، وهنا مكمن الخطر من وجهة نظر فرنسا والأوروبيين، أن لروسيا القدرة على ذلك.
وتابع: إذا أضفنا إلى هذا المعطى خبرا سيئا آخر بالنسبة لباريس، ويتمثل في الهجمة الصينية والنشاط التركي الملحوظ باتجاه القارة السمراء، يكتمل سيناريو الخطر الذي يهدد الوجود الفرنسي والمصالح الحيوية الفرنسية في هذه المنطقة التي ترى فيها باريس منطقتها التي تعود إليها قبل أي قوة أخرى في العالم.
تأخير خسارة باريس
وعن جدوى الزيارة المرتقبة لماكرون يوم الاثنين القادم لمالي ولقاء نظيره أسيمي غويتا، ونتائجها المرتقبة خاصة في ظل كل هذه التناقضات والتوترات، شدّد خبير العلاقات الدولية على أن ماكرون لن ينجح في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء لأنه علاوة عن كون فرنسا لم تعد سوى قوة متواضعة متوسطة الحجم، عسكريا واقتصاديا، أي بتعبير آخر لم تعد تمتلك الوسائل الضرورية لسياستها، فإن شراهة موسكو وكذلك الصين تجاه القارة الأفريقية لا يضاهيها قوة سوى رفض السكان المحليين والأفارقة بشكل عام للوجود العسكري الفرنسي.
وخلص إلى أن ماكرون قد ينجح في ربح الوقت وتأخير خسارة باريس لآخر مربع لها بأفريقيا، لبضعة سنين، لكن أمام تسارع المتغيرات الإستراتيجية أفريقيا وعالميا، لن يعدو الأمر إلا أن يكون مسألة ربح للوقت لا غير.
كما يرى رئيس قسم العلاقات الدولية والاقتصاد السياسي في مركز جنيف للدراسات أن زيارة ماكرون هي محاولة لرسم إستراتيجية جديدة واضحة المعالم تريد باريس تنفيذها، ربما بعد الانتخابات الفرنسية القادمة.