هل تبدد تركيا شبح تجدد الحرب في البوسنة؟
تشهد البوسنة أزمة سياسية متفاقمة يخشى البعض أن تتطوّر إلى حرب إقليمية تلقي بظلالها مجدّداً على منطقة البلقان، التي عانت الأمرّين لسنوات جرّاء حرب إثنية شهدت مجازرَ صُنّفت الأبشع منذ الحرب العالمية الثانية.
وتسبّب ميلوراد دوديك زعيم الصرب في البوسنة والهرسك، في تفاقم الأزمة عقب تهديده بالانفصال عن البوسنة إذا لم تحدث العودة إلى “أصل اتفاقية دايتون” التي أنهت الحرب في البلد الذي يعاني أزمة سياسية منذ فترة، وعمَّقتها تصريحات دوديك الأخيرة.
ولم يمرّ سوى أسبوع واحد على تصريحات دوديك حتى دعاه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى أنقرة للتباحث المشترك حول الأزمة الراهنة.
طبول الحرب
كتبت اتفاقية “دايتون للسلام” التي وُقّعَت في باريس عام 1995 نهاية الحرب البوسنية رسمياً، ونصّت “دايتون” على تشكيل مجلس رئاسة ثلاثي يحكم جمهورية البوسنة والهرسك، على أن يتألّف المجلس من عضو ممثّل للبوشناق، وآخر للصرب، وثالث للكروات.
وفي 23 يوليو/تموز الماضي بدأت أزمة سياسية في البوسنة، إذ قرّر دوديك ومسؤولون آخرون من صرب البوسنة مقاطعة قانون كان أصدره مكتب الممثّل السامي في البلاد، يجرّم إنكار المجازر التي شهدتها البوسنة والهرسك.
وعلى أثر القرار هدّد دوديك باتخاذ “خطوات متطرّفة” تتعلّق بنظم الجيش والقضاء والضرائب في البلاد، إذا لم “تحدث العودة إلى أصل اتفاقية دايتون” للسلام.
كما لوّح دوديك بانفصال الصرب عن جمهورية البوسنة والهرسك وتأسيس جيش خاصّ بهم.
وتوجّس محلّلون ومراقبون خيفة من تصريحات دوديك، فيما اعتبرها البعض بمثابة دق لطبول الحرب في بلاد لا تزال جريحة ولم تلتئم جراحها بعد، لا سيّما مع انتشار أكثر من 750 ألف قطعة سلاح غير مسجلة من مخلّفات الحرب البوسنية، حسب تقارير أممية.
وحذّر كريستيان شميت، المندوب السامي للدول الموقّعة على اتفاقية “دايتون” في جمهورية البوسنة والهرسك، من مغبّة تصريحات دوديك، التي تأتي في سياق وجود مؤشّرات حقيقة على عودة العنف وأنّ تفكّك البوسنة “بات خطراً محتوماً”، حسب تقرير شميت الذي قدّمه للأمم المتحدة.
وشدّد الممثّل الأعلى لبروكسل لدى سراييفو على أنّ تصريحات دوديك تُعتبر “أخطر تهديد وجودي تواجهه البلاد خلال مرحلة ما بعد الحرب”، متوجّساً من سيناريو انفصالي ينزلق بالبوسنة نحو مستنقع دماء سبق لها أن غرقت فيه لسنوات، وذلك حال تمسُّك صرب البوسنة بتحقيق مخططهم بتكوين جيشهم الخاصّ وتقسيم الجيش الوطني البوسني.
ولم يفلح نفي دوديك كونه يدفع بلاده نحو الحرب قائلاً: “لا حرب، لن تقوم حرب، ولا إمكانية لقيام حرب”، في طمأنة المراقبين والجهات الدولية، الأمر الذي دفع شميت إلى الدعوة لزيادة أعداد القوات الأممية على الأرض، وهو ما استجاب له مجلس الأمن مقرّراً تمديد عمل قوات الاستقرار متعدّدة الجنسيات في البوسنة لعام إضافي.
مساعي أنقرة الدبلوماسية
خلال الأيام القليلة الماضية تحرّكت الإدارة التركية سريعاً مكثّفةً جهودها الدبلوماسية لإزالة التوتّر القائم في البوسنة والهرسك، محذرةً من تفاقم الأزمة وأنّها لن تسمح بتكرار سيناريو الحرب الأليم.
وبدأت تحرّكات أنقرة عبر لقاء عقده أردوغان الأربعاء المنصرم في إسطنبول، مع بكر عزت بيغوفيتش رئيس مجلس الشعوب البوسني (الغرفة الثانية للبرلمان)، بحثا فيه سبل احتواء التوتّر القائم في البلاد في لقاء استمرّ نحو ساعتين.
وأشار بيغوفيتش في حديثه إلى قناة تليفزيونية محلية حول لقائه الرئيس التركي، إلى أنّ أردوغان يتمتّع بعلاقات جيدة مع (الرئيس الصربي ألكسندر) فوسيتش و(العضو الصربي في المجلس الرئاسي للبوسنة والهرسك ميلوراد) دوديك.
وأردف رئيس مجلس الشعوب البوسني بأنّ أردوغان زعيم قوي للغاية ويقيم علاقات جيدة، علينا الاستفادة من ذلك.
ولفت بيغوفيتش إلى أهمية التركيز على مشروع طريق سراييفو-بلغراد السريع لكونه مدعوماً من تركيا، وأنّ الأخيرة لديها ما يكفي من الوسائل الدبلوماسية لوقف تخييم شبح الحرب على الأجواء في منطقة البلقان.
واجتمع الرئيس التركي الأحد مع ممثّلي منظمات مدنية للبوشناق في تركيا، وصرّح لهم بأنّ أنقرة لا تريد أبداً أن تتحوّل البوسنة والهرسك إلى ساحة نفوذ وتنافس للأطراف التي لديها حسابات بشأن هذه المنطقة (…) وللأوساط الّتي تتغذى على القلاقل والفوضى.
فيما أكّد أردوغان أن بلاده تُعَدّ الحائل الأكبر أمام وقوع أحداث مؤسفة في البوسنة والهرسك مجدداً كتلك التي شهدتها البلاد في التسعينيات، منوّهاً بأن تركيا لطالما قدّمت الدعم من أجل استقرار البوسنة والهرسك عبر الحفاظ على البنية الثقافية والإثنية المتعددة لهذا البلد، وبلا تمييز بين مكوناته.
ولم يقف الدور التركي عند هذا الحد، إذ دعا الرئيس التركي رئيس صرب البوسنة إلى أنقرة الثلاثاء، عقب التصريحات المثيرة للجدل التي أدلى بها دوديك الأسبوع الماضي، واجتمع أردوغان بالأخير على مأدبة عمل في العاصمة أنقرة في لقاء أُقيمَ بعيداً عن عدسات وسائل الإعلام.
فيما بيّن أردوغان أنّه قد يجري زيارة عمل لصربيا أو يوجّه دعوة إلى نظيره الصربي لزيارة تركيا لبحث التطوّرات في هذا الإطار.
وتأمل تركيا أن تُتوَّج مساعيها برأب الصدع في البيت البوسني، وهو ما شدّد عليه الرئيس التركي قائلاً: مهما يفعل الآخرون فسنواصل احتضان الصرب والكروات والأرناؤوط والمقدونيين إلى جانب أشقائنا البوشناق”، موضحاً أنّ جهود بلاده الدبلوماسية ستستمرّ بُغية “تعزيز الحوار مع مختلف الأطراف لمنع عودة البوسنة والهرسك إلى الأيام السوداء.