تربية النشء بين الحال والمآل
تتعدد الجهات المسؤولة عن تربية الطفل وغرس الضمير في وجدانه مذ بكيـرة من نشأته، التـي يكون فيها حدث السن، قابلا للاستجابة، سهل التلقي، لين الجانب، مقدما على ما يؤمر به، محجما عما ينهى عنه، وفي هذه المرحلة بالذات تكون مؤسسة الأسرة هي المسؤول الأول عن زرع بذور التربية الحسنة في تلكم التربة الخصبة، وتمرير أولى أبجديات الأخلاق، وأدبيات التعامل لعقل الطفل ووجدانه.
ولا ريب في أن ذلك لن يتم اعتمادا على التعليم والتوجيه فحسب، بل لابد من تمثله سلوكا وأفعالا أمام ألحاظ الطفل حتى يلامسه ويقتنع به، فالعمل أبلغ من القول في الأثر، وأجدى للمأمور في اتباع آمره، كائنا من كان، وهذا أمر يلزم الآباء معرفته والعمل به لإصلاح عقول أبنائهم، وتربية نفوسهم على الفضيلة منذ نعومة أظفارهم وقبل أن يفلت العقال من بين أيدهم، وحينها لا تنفع الحسرة والندم.
أما المؤسسة المدرسية، فتأتي في المرحلة الثانية من تربية الطفل، لكن ذلك لا ينفي وجوب بقاء دور الأسرة فعالا موازاة مع المؤسسة حتى يبلغ الطفل السن الشرعي والقانوني الذي يجعله مسؤولا عن سلوكه وأفعاله، ففي المدرسة يستكمل ما تبقى من أدبيات التربية، ويتلقى جملة من المهارات التواصلية والمعرفية، والقيم الدينية والثقافية، التـي تكون شخصيته وتبنـي عقله، حتـى يخرج للمجتمع مسلحا بالفكر السليم الممكن له من الذود عن نفسه من الوقوع في حبائل الملذات والشهوات، ومجابهة ما يعتور الشباب من العقائد الباطلة والتوجهات السقيمة، والسلوكات الفاسدة، والظواهر المشينة، الشائعة في مجتمعنا هذا الذي طالما يغفل كثيـر من الناس عن إسهامه الكبيـر في تربية أبنائه، فقديما قيل: ” الإنسان ابن بيئته“ ومن ثم فإن هو امتلك من المعرفة ما يؤهله لأن يكون منخلا منتخبا من الأفكار والأنظار والرؤى ما كان ذا جدوى أفلـح ونجـح، وإن كان كحاطب ليل يجمع الغث والسمين، فيوشك أن يملأ وعاءه أفاعي وحيات، فيكون كمن سعى لحتفه بظلفه.
فكم رأينا من المظاهر والسلوكات المشينة التـي غدا المجتمع يتجرع ويلاتها ممن صاروا شبابا وتخطوا سن الرشد والتمييـز ، ولم يجدوا في طفولتهم وصغرهم من يدلهم على سلك السبيل الآمنة، ويحذرهم من السير على درب الاستهتار واللامبالاة، بل والسـخرية من القيم الدينية والأخلاقية.
وهنا نجدنا في غيـر حل من التأكيد على أن جل الأسقام الاجتماعية التـي يعانيـها مجتمعنا الصادرة عن فساد المنظومة الأخلاقية ليست إلا حصاد بذور النشء التـي لم نعرها اهتماما، ولم نلق لها بالا.
وعليه، وجب أن ندق ناقوس الخطر ونصيح بصوت عال ايقاظا لكل الجهات المسؤولة وتنبـيـها لها، من أجل غرس الضمير في نفوس النشء والشباب، الذين ترك لهم الحبل على الغارب حتـى صاروا جاهلين بتعاليم دينهم الذي يدعوهم أول ما يدعوهم إلى العلم والتعلم وضرورة الشعور بالمسؤولية في كل عمل أنيط بهم، سواء أتعلق الأمر بدراستهم ومدارسهم، أو بأسرهم ومجتمعهم الذي يحيون فيه ويكتنفهم.
فلقد أضحت طموحات غالبية الجيل الحالي، مادية محضة متأثرين في ذلك بالمدنية الغربية، بل صارت كل أمانيـهم، الحصول على المال بلا جهد ولا مشقة، وبصرف النظر عن السبل المحصل بها.
ومما أسهم في ذيـوع هذا التصور لدى الأطفال والشباب، ما يمر أمام ألحاظهم صباح مساء في العالم الافتراضي الذي بات لا يبـرح أيديهم من خلال الهواتف الذكية، والألواح الإليكترونية التي تصور الواقع صورة مزيفة تنقل من خلالها متتبعيها إلى عالم آخر يختلف تماما عن واقعهم الملموس الذي ينم عن صورهم الحقيقية.
الأستاذ عبد العزيز بوناصر