عمامة تركية تحمل مشعل الدعوة من مكة إلى اليابان
عن صهوة تسعين سنة، ترجل الشيخ الأبيض ذو اللحية الكثة والوجه البسام، الشيخ نعمة الله خليل إبراهيم يورت، تعرفت الملايين على الشيخ بعد رحيله، أكثر مما عرفته في حياته التي كانت حلقة متواصلة من العمل الدؤوب من أجل نشر الإسلام في مناطق، ظلت لقرون عصية عن دفق الإسلام الوهاج.
لم تمر العقود التسع التي قضاها نعمة الله في الحياة مر السحاب، وإن مرت في شغاف التاريخ مرور الكرام المتقين، الذي جعلوا المحراب صديقهم الأبرز في الحياة.
رفيق القرآن.. نداء الشوق إلى البلاد المقدسة
كان عام 1931 عام إشراقة الحياة في بيت الشيخ التركي إبراهيم يورت، عندما زفت له القوابل خبر ميلاد ابنه، كان الأمر نعمة عظيمة من الله، ولم يتردد الوالد في إطلاق اسم نعمة الله على ابنه الذي نشأ في بيت تربية وإيمان وتعلق بالعبادة.
سرعان ما شب نعمة الله متعلق القلب بالمساجد، مصاحبا للقرآن الكريم، فعمل مؤذنا في جامع السلطان أحمد بإسطنبول، وكان عمره يومها 24 سنة لا أكثر، وواصل في ذات المهمة في وقت كانت المساجد التركية به تحت سطوة التراث الأتاتوركي، في أبشع صوره وأكثرها عنفا وحربا على الشعائر الإسلامية ومظاهر التدين.
كان أبوه إبراهيم يورت موظفا ساميا في رئاسة الشؤون الدينية بتركيا، وكانت ابنته فاطمة أخت الداعية نعمة الله، مقرئة للقرآن الكريم ومحفّظة درس، وقد تعلم على يديها كثير من الشباب والنساء، كانت الأسرة -باختصار- تعيش مع القرآن ولأجله.
بعد فترة من تلك المهمة، ألح نداء الشوق للأرض المقدسة على الشيخ إبراهيم يورت وابنه نعمة الله، فغادرا إلى مكة المكرمة، وأقام هنالك نعمة الله ثلاثا وثلاثين سنة كاملة، فكان جارا للكعبة المشرفة، وحليفا للمسجد الحرام، دائرا مع المطاف، ومحلق الروح في تلك البقاع التي تربط الأرض بالسماء، وتهوي إليها القلوب من كل فج عميق.
عمل نعمة الله يورت في أول حياته مؤذنا بمسجد السلطان أحمد بإسطنبول
تزاحم الأرباب.. رحلة من بلاد الحرم إلى بلاد بوذا
ارتوى الشيخ نعمة الله من ماء زمزم، لكن زمزم أخرى من أشواق الإيمان، تدفقت في فؤاده، فلبى نداء الدعوة التي وجهها إليه مسلمون من دولة اليابان، وشد الرحال من مكة المكرمة، إلى واحدة من أهم دول الديانة البوذية الوثنية في العالم.
في اليابان كان لبوذا وتماثيله الراسخة في أعماق التاريخ تأثير لا نظير له في أعماق الإنسان الياباني، والإنسان بشكل عام في تلك المنطقة، وفي شرق آسيا بشكل عام، وفي بعض تلك المناطق تتعدد الآلهة، ويتزاحم الأرباب الذين صنعهم الإنسان من الطين والخزف، أو الحديد والخشب، وحتى من الذهب الخالص، ويلقي المتعبدون بأزمة حياتهم وقلوبهم إلى تلك المعابد، ويتمسحون بأقدام تلك التماثيل الصامتة إلى الأبد.
في هذه الأجواء، حطت الطائرة بالشيخ نعمة الله، وجه صبيح، وعينان صقريتان ثاقبتان، وطموح مجنح من أجل الإسلام، الإسلام وحده.
تولى الشيخ نعمة الله إمامة المركز الإسلامي في اليابان، وتولى تسيير شؤونه وإدارة أعماله، ورغم أن سنّه في تلك الفترة كانت متقدمة، وإقامته في مكة كانت مغرية جدا للبقاء هنالك في حرم القداسة والجلال، إلا أنه لبى نداء الواجب، وانطلق إلى أرض الصناعة والشغف المادي، وإحدى أكثر البلدان إنتاجية وبراعة في العالم.
كانت الابتسامة رسول الرجل ورسالته إلى قلوب اليابانيين، وقد أنتجت تلك الابتسامة وذلك الصوت الإيماني المشرق الخافت لائحة هائلة من المسلمين، دخلت في دين الله أفواجا، وتجاوزت أعدادها 100 ألف شخص، ولا يزال عدادها متواصلا بعد أن تحول كل واحد من هؤلاء إلى داعية للإسلام، في متتاليات إيمانية فريدة لا نهاية لها.
أجرى الله الخير مدرارا على يد الشيخ نعمة الله، فأقام أكثر من 410 مساجد ومصليات في مختلف مناطق اليابان، كما وزع عشرات الآلاف من المصاحف والكتب الإسلامية المترجمة للغة اليابانية، وألقى آلاف المحاضرات والدروس العلمية والمواعظ والكلمات، واستطاع بعلاقاته الإيجابية في مختلف الأوساط أن يخاطب اليابانيين عبر القنوات التلفزيونية في بلادهم، مما منح خطابه دفعا هائلا، ونشر دعوته الإسلامية في مناطق وقلوب متعددة.
وقد حمل الشيخ التركي نعمة الله لقب مجاهد اليابان، حيث كان صاحب اليد البيضاء للإسلام فيها، وأكثر داعية في تلك المنطقة تأثيرا في القلوب والنفوس، وأكثر من جلب المشاعر إلى حدائق الإسلام الزاهية، ولم تكن اليابان المحطة الأولى ولا الأخيرة في المسيرة الدعوية له، بل شملت رحلاته أكثر من 50 بلدا، وخصوصا بلدان أوروبا، وبشكل خاص ألمانيا التي أسلم على يديه فيها مئات الأشخاص، وأعاد الآلاف من المنحرفين إلى رياض الإسلام بعد أن سلكوا مسالك الغواية وتنكبوا طريق الحق.
“أنتم الآن من أهل الجنة، سأذهب إلى غيركم”
لم يكن الشيخ نعمة الله يرى أن هنالك مكانا خاصا للدعوة، فلم يعتكف في مسجده في انتظار القادمين إلى المحاريب وأساطين المساجد، بل كان يقتحم الخمارات وبيوت اللهو، ويخاطب الناس بالبشارة والبسمة، ويمنحهم آفاقا هائلة للتوبة والعودة إلى الإسلام الصافي.
وفي رحلاته الدعوية كان الشيخ نعمة الله حريصا على أن يسير راجلا، يصافح العمال البسطاء ويبشرهم بالجنة عندما يرددون معه كلمة الشهادة لا إله إلا الله، فيخاطبهم بكل فرح: أنتم الآن من أهل الجنة، سأذهب إلى غيركم.
وقد ساعدت الرجل قدراته المعرفية الموسوعية، ومعرفته الواسعة بلغات العالم، حيث كان يتحدث ست لغات هي العربية والتركية واليابانية والأوردية والفارسية والإنجليزية، وظل يخاطب العالم بكل هذه اللغات، داعية يجول بين العالم.
قصة الخمارة التي زارها نعمة الله يورت وعاد منها بأربعين رجلا إلى المسجد
“السلام عليكم أيها المجاهدون”.. حوار في خمارة ألمانية
يذكر الدكتور صالح السامرائي رئيس المركز الإسلامي في اليابان، قصصا متعددة من أسلوب الشيخ نعمة الله في الدعوة إلى الله، ومنها قصة دعوة عشرات السكارى في خمارة بألمانيا سنة 1979، إذ يقول: وقف الشيخ نعمة الله يتحدث مع الأتراك في أحد مساجدهم لمدة ساعتين أو ثلاث، ووقف بعدها متسائلا أين غيركم؟
أجابوه: لماذا تسأل؟ تكلم ونحن نستمع لك لساعات.
قال الشيخ: أين غيركم لأذهب إليهم؟
أجابوه في الخمارات.
قال الشيخ: أذهب إليهم، أرسلوا معي دليلا.
وفعلا ذهب الشيخ نعمة الله مع الدليل إلى خمارة روادها أربعون تركيا، ووقف الشيخ وسطهم وحياهم قائلا: السلام عليكم أيها المجاهدون، فبدأ كل واحد منهم ينظر إلى الآخر متعجبين: أين المجاهدون؟
قال الشيخ أنتم مجاهدون لثلاثة اعتبارات:
الاعتبار الأول: تحرككم ومشيكم ورواحكم ومجيئكم في ألمانيا بأسمائكم الإسلامية: أحمد، خليل، إبراهيم.. إلخ. كل هذا يذكر الناس بالإسلام.
الاعتبار الثاني: جئتم لألمانيا لكسب الرزق الحلال لآبائكم وأبنائكم، وهذا أيضا جهاد.
الاعتبار الثالث: لو نظرنا إلى أسلافكم من العثمانيين فإنهم كانوا مجاهدين فأنتم أحفاد المجاهدين.
“فيكم صفة الأنبياء والصحابة والأولياء”.. رحلة من الحانة إلى المسجد
خاطب الشيخ نعمة الله معشر رواد الخمارة قائلا: إني قادم من المدينة المنورة وقد أتيتكم ببشارة من هناك وهي قول رسول الله ﷺ: “إنه من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله دخل الجنة”، وإن الله سبحانه وتعالى يؤجرني بسببكم. وهنا ردد الجميع: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
ثم تابع حديثه: وإني أعظ الناس منذ سنين طويلة في المساجد، وكان المفروض أن نزوركم ونبلغكم دعوة الأنبياء الذين كانوا يأتون الناس في نواديهم ويدعونهم لدين الحق.
بدأ الجميع بالبكاء والنحيب وهم يرددون، تكلم تكلم يا شيخ، اجلس، تكلم تكلم يا شيخ (ولكن الشيخ نعمة الله كان يرى أن الجلوس معناه مشاركتهم في الحرام). ثم قال: إلى متى أتكلم، أنتم الآن من أهل جنة الآخرة، وسأذهب لآخرين أتحدث إليهم، وإني أدعوكم الآن إلى جنة الدنيا (المسجد). ثم تساءل: ألم تشاركوا في التبرع لبناء المسجد المجاور لكم؟
تبرع الخمارون للمسجد، وبدأ الشيخ يقود الأربعين رجلا إلى المسجد منهم من دخل المسجد، ومنهم جلس خارجه ينتظر، والشيخ يقرأ ويترجم قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِي الذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِم لَا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾. وقول الرسول الكريم ﷺ: خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا.
ويذكر الشيخ صالح السامرائي أن من الطرائف أنه حينما كان يخاطب رواد موائد الميسر كان يقول لهم إن فيكم صفة الأنبياء والصحابة والأولياء، لأنكم مستيقظون حتى ساعة متأخرة من الليل.
“ماذا سأقول لرسول الله؟”.. شغف حمل الإسلام إلى شعوب العالم
ينسب أصدقاء الشيخ نعمة الله إليه عبارته التي يرددها دائما، ماذا سأقول لرسول الله ﷺ، أستحي أن أنظر إلى وجهه، كان علي أن أبلغ الإسلام إلى كل شعوب العالم.
وظل الشيخ الراحل شغوفا بتلك الدعوة، يواصل فيها حتى آخر أيامه، حيث أقعده المرض في الأشهر الستة الأخيرة من حياته، قبل أن يسلم الروح إلى بارئها، ويغادر الدنيا بعد رحلة استمرت تسعة عقود من صحبة القرآن والدعوة إلى الإسلام والتبشير برحمته.
وبرحيله عن الدنيا يرحل ذلك الوضيء البسام، والوجه المشرق، والشغف الإيماني المتواصل من أجل أن تنتشر ظلال الإسلام في كل مكان وزمان ومنطقة.