ليلة الانقلاب عندما أمر أردوغان بهبوط طائرته في الظلام
كان لصمود الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مساء 15 تموز/يوليو 2016، وإصراره على مقاومة الانقلابيين، الأثر الأكبر في إجهاض هذه المحاولة التي كادت أن تطيح بكل ما وصلت إليه تركيا خلال السنوات الماضية من تقدم وتطور وازدهار وتنمية.
لم يترك أردوغان تركيا ويهرب إلى أي مكان خارجها، حيث توضأ في تلك الليلة، ثم صلى ركعتين لله، وبدأ بعدها قيادة المواجهة ضد الانقلابيين.. إيمان كبير وعظيم بأن صاحب الشأن هو الله.
كان أردوغان يتحضر بكل الوسائل للمقاومة من أجل تركيا، ليأتي البعض في هذه اللحظات في أحد فنادق مرمريس، حيث كان في تلك الليلة يمضي إجازة خاصة، ويقترح عليه التوجه مباشرة إلى إحدى الجزر اليونانية هربًا من الانقلابيين، وبالتالي ترك تركيا لمصيرها وترك الشعب التركي وحيدًا في مواجهة آلة القتل.
بغضب شديد، وفق ما روي أحد الوزراء الذي كان مع أردوغان في مرمريس، رفَض الرئيس هذا الاقتراح بشكل قطعي ونهائي.
بعد الصلاة واتخاذ قرار المواجهة إلى جانب الشعب التركي، أطل أردوغان عبر الهاتف المحمول صوتًا وصورة، على شاشة إحدى القنوات التلفزيونية التركية، مؤكدًا أن ما يحصل هو محاولة انقلابية غير قانونية.
كلمات قالها أردوغان في 12 ثانية، كانت كافية لهز الانقلابيين، وبث العزيمة بقلوب الملايين من أبناء الشعب التركي.
“لن نسمح لأحد أن يُثني عزمنا”.. جملة قالها أردوغان في تلك الليلة، بعثتِ الأملَ في قلوب الملايين، الذين نزلوا إلى الشوارع والمطارات والميادين يقاومون الدبابات والطائرات والرصاص الحي، فصمود الرئيس كان باعث أمل وباث إصرار على المقاومة.
نزل الملايين في كل ولايات تركيا الـ 81 دفاعًا عن وطنهم، وحاضرهم ومستقبل أولادهم، لينطلق الرئيس في هذه اللحظات من حيث هو في مرمريس إلى مدينة إسطنبول التي لم تكن الأجواء فيها آمنة، ولم يكن مطارها آمنًا.
طارت طائرة أردوغان من “دالامان” القريبة من مرمريس متجهة نحو مطار أتاتورك الدولي في إسطنبول، والخطر يداهمها من كل اتجاه، في ظل تحليق الطائرات الحربية التي كانت تحت سيطرة الانقلابيين.
وبالفعل عزمت إحدى الطائرات الحربية التي كان يقودها أحد الانقلابيين، على إسقاط الطائرة الرئاسية بصاروخ جو ـ جو، وفق تقارير نشرتها العديد من الصحف التركية لاحقا، إلا أن نفاذ وقود الطائرة قبل اتخاذها وضعية الهجوم حال دون ذلك، إلى جانب قيام طائرة الرئيس فور اقترابها من أجواء إسطنبول بتغيير مسارها والتحليق والدوران على مدار نصف ساعة فوق إسطنبول وبحر مرمرة كتدبير احترازي، ما شتت الانقلابيين أنها طائرة الرئاسة.
مناورة الطائرة الرئاسية، ونفاذ وقود الطائرة الحربية الخائنة، مكّن طائرة أردوغان من الهبوط بسلام على أرض مطار أتاتورك الدولي في إسطنبول.للحظة الهبوط قصة خاصة تجسد معاني الصمود حتى بلوغ الأهداف:
وزير العدل التركي آنذاك “بكير بوزداغ” يكشف تفاصيل الحوار الذي دار بين الرئيس أردوغان وقائد طائرته قبيل الهبوط على أرض مطار أتاتورك، في تلك الليلة العصيبة.
ـ الطيار: لقد أطفأوا إضاءة المطار، وبرج المراقبة لا يسمح لنا بالهبوط سيدي الرئيس.
ـ أردوغان: هل تستطيع أن تعتمد على الإضاءة الخاصة بالطائرة فقط من أجل الهبوط؟ وأيضًا في حال لم يسمحوا لنا بالهبوط، هل يمكنك الهبوط؟.
ـ الطيار: سيدي الرئيس، نعم أستطيع الهبوط ولكن بخطر.
ـ أردوغان: في هذه الحالة حاول البقاء في المجال الجوي، وكم ساعة نستطيع البقاء في الجو؟.
ـ الطيار: نستطيع البقاء في الجو لمدة 4 ساعات، وبعدها ينتهي الوقود.
ـ أردوغان: تابع الأمر واتخذ ما هو مناسب، ثم اهبط على أرض المطار مستخدمًا الإضاءة الخاصة بالطائرة فقط.
وبعد وقت وبصعوبة وخطر شديد، حطت الطائرة على أرض المطار، الذي تحول إلى قبلة لمئات آلاف المواطنين، الساعين لتحريره من قبضة الانقلابيين واستقبال رئيسهم.
وعلى أرض المطار يسجل أردوغان موقفًا بطوليًا آخرًا، يجسد حقيقة التلاحم بين كل أبناء الشعب.
قرر الرئيس أن لا يختلف شأنه عن شأن أولئك المنتشرين في شوارع وميادين ومطارات تركيا ضد الانقلابيين، فرفض أردوغان فور وصوله أرض مطار أتاتورك الدولي في إسطنبول، وبالرغم من وجود جيوب للانقلابيين في المطار، رفض أن يلبس درعًا واقيًا من الرصاص، وفقًا لطلب أحد مسؤولي حزب العدالة والتنمية الذي كان في استقباله.
المسؤول الحزبي كشف تفاصيل تلك اللحظات قبيل نزول أردوغان من طائرته إلى أرض المطار، حيث يقول في لقاء تلفزيوني: لقد ذهبتُ إلى طائرة رئيس الجمهورية، مع وجود جنود إنقلابيين في المطار لم تنته عملية السيطرة عليهم.
ويتابع: وصلت إلى الطائرة لأجد الرئيس ينتظر بجهوزيته الجميلة المعتادة، وطلبت منه أن يلبس درعًا واقيًا من الرصاص، لدواع أمنية خطيرة.
ويشير إلى أن أردوغان قال له ردًا على طلبه إن لبستم أنتم هذا القميص، فأنا سأخرج من الطائرة بثيابي العادية.
ويتابع: فعلًا لن أنسى تلك اللحظات أبدًا، ولن أنسى الثقة والقوة التي أبداها رئيس الجمهورية في الطائرة، مشيرًا إلى أن أردوغان عندما وصل إلى صالة المطار بدأ يعتني شخصيًا بالجرحى واحدًا بعد الآخر.
وشهدت العاصمة التركية أنقرة ومدينة إسطنبول، منتصف تموز/يوليو 2016، محاولة انقلاب فاشلة نفذتها عناصر محدودة من الجيش، تتبع لتنظيم “غولن” الإرهابي، حاولوا خلالها السيطرة على مفاصل الدولة، ومؤسساتها الأمنية والإعلامية.
وقوبلت المحاولة الانقلابية باحتجاجات شعبية عارمة في معظم الولايات، إذ توجه المواطنون بحشود غفيرة نحو مقرّي البرلمان ورئاسة الأركان بالعاصمة، ومطار “أتاتورك” الدولي بإسطنبول، ومديريات الأمن بعدد من الولايات.
وأجبر الموقف الشعبي آليات عسكرية تتبع للانقلابيين كانت تنتشر حول تلك المقرات على الانسحاب، ما ساهم بشكل كبير في إفشال المخطط الانقلابي الذي أوقع نحو 251 شهيدًا وإصابة ألفين و 196 آخرين.