أستاذ كبير في جامعة هارفارد العريقة يدعو لوقف العلاقة الخاصة مع “إسرائيل”
كتب الخبير الأمريكي المعروف ستيفن إم والت، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد، مقالا في مجلة “فورين بوليسي”، أشار فيه إلى أن الوقت قد حان لإنهاء “العلاقة الخاصة” مع الاحتلال الإسرائيلي.
ولفت الأكاديمي الأمريكي، إلى أن فوائد دعم الولايات المتحدة للاحتلال لم تعد تربو على تكاليفه المرتفعة، مضيفا أن الانتهاكات الإسرائيلية الأخيرة تجاه الفلسطينيين، قدمت المزيد من الأدلة على أن واشنطن يجب أن توقف الدعم الاقتصادي والعسكري والدبلوماسي غير المشروط للاحتلال.
انتهت جولة القتال الأخيرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين الطريقة المعتادة: بوقف لإطلاق النار خرج الفلسطينيون منه أسوأ حالاً وبقيت القضايا الأساسية بلا حل. كما تمخض عن ذلك المزيد من الأدلة على أنه يتوجب على الولايات المتحدة التوقف عن منح إسرائيل دعماً اقتصادياً وعسكرياً ودبلوماسياً غير مشروط. ففوائد تلك السياسة صفر والتكاليف باهظة وما تزال في ارتفاع. بدلاً من العلاقة الخاصة، تحتاج الولايات المتحدة وإسرائيل إلى علاقة طبيعية بينهما.
لربما كانت العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل مبررة ذات يوم على أساس أخلاقي، وذلك أن إقامة دولة يهودية كان يعتبر الرد المناسب على قرون من معاداة السامية العنيفة في العالم المسيحي، بما في ذلك الهولوكوست (المحرقة)، ولكن ليس قسراً عليها. كانت المبررات الأخلاقية قوية، ولكن فقط فيما لو تجاهل المرء تداعيات ذلك على العرب الذين كانوا يعيشون في فلسطين لقرون طويلة وفقط فيما لو اعتقد المرء أن إسرائيل تشترك مع الولايات المتحدة في قيمها الأساسية. وهنا أيضاً كانت الصورة بالغة التعقيد. لربما كانت إسرائيل فعلاً هي “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، ولكنها ليست ديمقراطية ليبرالية مثل الولايات المتحدة، حيث من المفترض أن تحظى جميع الأديان والأعراق بحقوق متساوية (بغض النظر عن مدى مثالية هذه الغاية وإلى أي مدى أمكن تحقيقها في أرض الواقع). بل، وانسجاماً مع الغايات الأساسية للصهيونية، منحت إسرائيل اليهود امتيازات لا تمنحها لغيرهم، وذلك عن إدراك وتعمد.
أما اليوم فقد دمرت عقود من السيطرة الإسرائيلية الوحشية المبررات الأخلاقية للحصول على دعم غير مشروط من الولايات المتحدة. لم تفتأ الحكومات الإسرائيلية من كل التوجهات توسع المستوطنات وتنكر على الفلسطينيين حقوقهم السياسية المشروعة، وتعاملهم كمواطنين من الدرجة الثانية داخل إسرائيل ذاتها، وتستخدم القوة العسكرية الإسرائيلية المتفوقة لقتل وترهيب سكان غزة والضفة الغربية ولبنان دون خشية من المساءلة أو العقاب. لو أخذنا كل ذلك بالاعتبار، فلم يكن مفاجئاً أن تصدر مؤخراً كل من منظمة هيومان رايتس واتش ومنظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية بيتسيلم تقارير مقنعة وموثقة بشكل جيد تتحدث بالتفصيل عن مختلف تلك السياسات بكونها نظام أبارتيد (فصل عنصر). لقد تسبب انجرار السياسة المحلية الإسرائيلية بشكل متزايد نحو اليمين والدور المتعاظم للأحزاب المتطرفة في السياسة الإسرائيلية في إلحاق مزيد من الضرر بصورة إسرائيل، بما في ذلك في أوساط كثير من اليهود الأمريكيين.
هل إسرائيل مكسب استراتيجي؟
في الماضي، كان من الممكن أيضاً القول إن إسرائيل كانت مكسباً استراتيجياً قيماً بالنسبة للولايات المتحدة، مع أن هذا المكسب كثيراً ما كان يبالغ في قيمته. فأثناء الحرب الباردة على سبيل المثال كانت مساندة إسرائيل طريقة فعالة للحد من نفوذ الاتحاد السوفياتي في الشرق الأوسط لأن الجيش الإسرائيلي كان قوة مقاتلة متفوقة جداً على القوى العسكرية العميلة للسوفيات مثل مصر وسوريا. كما كانت إسرائيل توفر مصدراً مفيداً للمعلومات الاستخبارية من حين لآخر.
إلا أن الحرب الباردة انتهت قبل ما يزيد عن ثلاثين عاماً. كما يسبب الدعم غير المشروط لإسرائيل اليوم مشاكل أكثر لواشنطن لم تعد لديها القدرة على حلها. فلم تتمكن إسرائيل من عمل شيء لمساعدة الولايات المتحدة في حربيها ضد العراق. بل لقد اضطرت الولايات المتحدة إلى إرسال صواريخ باتريوت إلى إسرائيل أثناء حرب الخليج الأولى لحمايتها من هجمات صواريخ سكود العراقية. وحتى لو استحقت إسرائيل أن ينسب إليها الفضل في تدمير المفاعل النووي السوري الذي كان حينها قيد الإنشاء في عام 2007 أو في المساعدة على تطوير فيروس ستاكسنيت الذي استخدم لإلحاق أضرار مؤقتة في أجهزة الطرد المركزي الإيرانية، فإن قيمتها الاستراتيجية أقل بكثير مما كانت عليه أثناء الحرب الباردة. أضف إلى ذلك أن الولايات المتحدة ليست مضطرة لتزويد إسرائيل بدعم غير مشروط من أجل أن تحصد مثل تلك الفوائد.
تكاليف العلاقة الخاصة في ارتفاع
في هذه الأثناء تستمر تكاليف العلاقة الخاصة في الارتفاع. في العادة يبدأ منتقدو الدعم الأمريكي لإسرائيل بالإشارة إلى ما يزيد عن ثلاثة مليارات دولار من المساعدة العسكرية والاقتصادية التي تقدمها واشنطن لإسرائيل كل عام، وذلك على الرغم من أن إسرائيل غدت الآن بلداً ثرياً تحتل المرتبة التاسعة عشر عالمياً من حيث مستوى دخل الفرد. ما من شك في أن ثمة طرق أفضل لإنفاق ذلك المال، ولكنه لا يعدو كونه قطرة في دلو بالنسبة للولايات المتحدة، البلد الذي يحظى باقتصاد تبلغ قيمته 21 تريليون دولار. ولذلك فإن التكاليف الحقيقة للعلاقة الخاصة ذات طبيعة سياسية.
وكما شهدنا خلال الأسبوع الماضي، من شأن الدعم غير المشروط لإسرائيل أن يزيد من صعوبة أن تزعم الولايات المتحدة بأنها تحتل المكانة الأخلاقية العليا في المسرح الدولي. تحرص إدارة بايدن على تحسين سمعة وصورة الولايات المتحدة بعد أربع سنين من إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. وتسعى في سبيل ذلك إلى التمييز بشكل واضح بين سلوك وقيم الولايات المتحدة وتلك التي تصدر عن خصومها مثل الصين وروسيا، كما تسعى في أثناء ذلك إلى إعادة تقديم نفسها باعتبارها الضامن لنظام عالمي يقوم على القيم والأخلاق. ولهذا السبب صرح وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكين لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إن الإدارة تنوي وضع “الديمقراطية وحقوق الإنسان في المركز من سياستها الخارجية.” ولكن عندما تقف الولايات المتحدة وحيدة وتستخدم حق الفيتو لإعاقة ثلاثة قرارات منفصلة لمجلس الأمن الدولي بشأن وقف إطلاق النار، وتعيد التأكيد مراراً وتكراراً على أن لإسرائيل “حق الدفاع عن نفسها”، وتصدر أمراً بموافاة إسرائيل بأسلحة إضافية تقدر قيمتها بحوالي 735 مليون دولار، وتقدم للفلسطينيين كلاماً معسولاً لا قيمة له حول حقهم في العيش في الحرية والأمن بينما تدعم حل الدولتين (رغم أن هذا الأخير لم يعد يأخذه على محمل الجد من لديهم معرفة جيدة بما يجري على الأرض)، فإن ادعاءها الالتزام بالمستوى الأرقى من القيم والأخلاق يغدو فارغاً من كل مضمون ونفاقاً مفضوحاً. ولذلك لم يكن مستغرباً أن تسارع الصين إلى الاستهزاء بالموقف الأمريكي، وراح وزير الخارجية الصيني وانغ يي يؤكد على عجز الولايات المتحدة عن القيام بدور الوسيط النزيه، عارضاً استضافة المحادثات الإسرائيلية الفلسطينية بدلاً منها. لربما لم يكن ذلك عرضاً جاداً، ولكن بيجينغ بالكاد ستكون أكثر سوءاً في أدائها مقارنة بأداء واشنطن خلال العقود الأخيرة.
والتكلفة الأخرى المستمرة للعلاقة الخاصة تتمثل في عرض الحيز غير المتكافئ الذي تستهلكه العلاقات مع إسرائيل من السياسة الخارجية الأمريكية. فالرئيس بايدن ووزير خارجيته بلينكن ومستشاره للأمن القومي جيك سوليفان لديهم من المشاكل التي تشغل بالهم ما هو أكبر بكثير من تصرفات بلد صغير في الشرق الأوسط. ومع ذلك تجد الولايات المتحدة نفسها، تارة أخرى، متورطة في أزمة، تعتبر إلى حد كبير من صنع يديها، تتطلب عناية وتستأثر بوقت قيم كان من الأجدر أن يكرس للتعامل مع قضايا مثل التغير المناخي، والصين، وجائحة كورونا، والانسحاب من أفغانستان، والتعافي الاقتصادي، وحزمة كبيرة من المشاكل الأثقل وزناً. لو كانت للولايات المتحدة علاقة طبيعية بإسرائيل، فسوف تحظى حينها بالاهتمام الذي تستحقه، ولكن ليس أكثر من ذلك.
الدعم غير المشروط لإسرائيل يعقد الدبلوماسية الأمريكية
ثالثا، يعقد الدعم غير المشروط لإسرائيل جوانب أخرى من الدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط. ومن ذلك على سبيل المثال أن التفاوض على اتفاق جديد بهدف الحد من قدرة إيران على إنتاج الأسلحة النووية سيكون أسهل بكثير لو لم تواجه الولايات المتحدة معارضة مستمرة من حكومة نتنياهو، ناهيك عن المعارضة الشديدة من قبل العناصر المتشددة في اللوبي المناصر لإسرائيل هنا في الولايات المتحدة. ومرة أخرى، وجود علاقات طبيعية مع بلد شرق أوسطي يمتلك فعلاً ترسانة من الأسلحة النووية قد يساعد واشنطن في جهودها المستمرة منذ زمن في الحد من انتشار تلك الأسلحة إلى أماكن أخرى.
كما تفرض الرغبة في حماية إسرائيل على الولايات المتحدة إقامة علاقات مع حكومات أخرى في الشرق الأوسط ليس لها كثير من المعنى من الناحية الاستراتيجية أو الأخلاقية. فدعم الولايات المتحدة للنظام الدكتاتوري البغيض في مصر (بما في ذلك تجاهل الانقلاب العسكري الذي دمر الديمقراطية الناشئة في ذلك البلد في عام 2011) إنما يقصد منه، ولو جزئياً، ضمان استمرار مصر في الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع إسرائيل واستمرار معارضتها لحركة حماس. كما أن الولايات المتحدة أكثر استعداداً للتسامح مع انتهاكات المملكة العربية السعودية (بما في ذلك في اليمن وجريمة قتل الصحفي المعارض جمال خاشقجي) نظراً لأن تساوق الرياض الضمني مع إسرائيل آخذ في الترسخ.
ورابعاً، ساعدت عقود من الدعم غير المشروط لإسرائيل في توليد الأخطار التي واجهتها الولايات المتحدة من الإرهاب. لقد كان أسامة بن لادن وغيره من رموز القاعدة في غاية الوضوح بهذا الشأن، حيث كان مزيج من الدعم الأمريكي المستمر لإسرائيل ومعاملة إسرائيل القاسية للفلسطينيين أحد الأسباب الرئيسية التي حفزتهم على اتخاذ القرار بمهاجمة “العدو البعيد”. لم يكن السبب الوحيد، ولكنه لم يكن مسألة هامشية. وكما ورد في تقرير هيئة التحقيق الرسمية في أحداث الحادي عشر من سبتمبر بخصوص خالد شيخ محمد، والذي وصفته بأنه المخطط الرئيسي للهجوم: “باعترافه هو شخصياً، فإن مشاعر عداء خالد شيخ محمد تجاه الولايات المتحدة منبعها ليس تجاربه هناك عندما كان طالباً وإنما جاءت من معارضته الشديدة للسياسة الخارجية للولايات المتحدة المنحازة لإسرائيل.” ما كانت مخاطر الإرهاب لتختفي تماماً لو كان للولايات المتحدة علاقات طبيعية مع إسرائيل، ولكن الموقف الأكثر توازناً والأكثر أخلاقية والذي يمكن أن يُدافع عنه كان سيساعد في تقليص السلوكيات المعادية للولايات المتحدة التي غذت التطرف العنيف خلال العقود الماضية.
المغامرات الفاشلة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط
كما أن العلاقة الخاصة ترتبط بالمغامرات الفاشلة الأكبر للولايات المتحدة في الشرق الأوسط بشكل عام، بما في ذلك قرار غزو العراق في عام 2003. لم تكن إسرائيل هي من ابتدع هذه الفكرة السخيفة وإنما تنسب إلى تيار المحافظين الجدد المناصر لإسرائيل في الولايات المتحدة، بل لقد عارض بعض قادة إسرائيل الفكرة في البداية وأرادوا من إدارة جورج دبليو بوش التركيز بدلاً من ذلك على إيران. ولكن بمجرد أن قرر الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش أن الإطاحة بالزعيم العراقي صدام حسين ستكون الخطوة الأولى في برنامج أشمل لإعادة تشكيل المنطقة ككل انضم إلى الجوقة كبار المسؤولين الإسرائيليين، بما في ذلك نتنياهو ورئيسا الوزراء الإسرائيليان السابقان إيهود باراك وشمعون بيريز، وساعدوا في تسويق فكرة الحرب لدى الشعب الأمريكي. فقد كتب كل من باراك وبيريز مقالات في ذلك وظهرا في مقابلات في وسائل الإعلام الأمريكية لحشد الدعم لصالح الحرب، وتوجه نتنياهو إلى مبنى الكونغرس من أجل توجيه رسائل مشابهة لأعضاء الكونغرس. وعلى الرغم من أن استطلاعات الرأي تظهر أن اليهود الأمريكيين كانوا أقل دعماً للحرب من عامة الجمهور، إلا أن لجنة الشؤون العامة الإسرائيلية الأمريكية (إيباك) وغيرها من منظمات اللوبي المناصر لإسرائيل ألقوا بثقلهم خلف معسكر الحرب أيضاً. لم تكن العلاقة الخاصة هي التي سببت الحرب، ولكن الروابط الوثيقة بين البلدين ساعدت في تعبيد الطريق.
العلاقة الخاصة والترنيمة المألوفة التي تقول إن التزام الولايات المتحدة تجاه إسرائيل لا يهتز يقفان وراء جعل مناصرة إسرائيل هو الاختبار الذي لابد من اجتيازه حتى يتمكن المرء من الخدمة في الحكومة، وبذلك تتم الحيلولة دون أن تستفيد الدولة من عدد كبير من الأمريكيين المؤهلين والموهوبين. في المقابل تزول العوائق من أمام كل من يعرب عن دعمه المطلق لإسرائيل فيتمكن من الوصول إلى أعلى المناصب في الحكومة، وكل من يعرف عنه نقده لإسرائيل ولو بشكل طفيف وخفيف فإن طلبه للتوظيف سيواجه مشاكل. فإذا ما تشكل انطباع عن شخص ما بأنه لا يناصر إسرائيل بما فيه الكفاية فقد يتم قطع الطريق على تعيينه كما حدث عندما اختير الدبلوماسي المخضرم ومساعد وزير الدفاع الأسبق تشاز دبليو فريمان في البداية ليشغل منصب رئيس مجلس المخابرات الوطنية في عام 2009، أو قد ينجم عن ذلك إجبار المرشحين على القيام بتصرفات مهينة لذواتهم مثل الإعراب عن الأسف الشديد أو التذلل. ومن الأمثلة الأخرى على هذه المشكلة حالة كولين كاهل، الذي بالكاد فاز ترشيحه لمنصب وكيل وزارة الدفاع بثقة مجلس الشيوخ على الرغم من مؤهلاته التي لا غبار عليها، ناهيك عن الكثير من الأفراد المؤهلين على أعلى المستويات ولا يخطر بالبال إطلاقاً تعيينهم لأن فرق المرحلة الانتقالية (بين إدارة وأخرى) لا يرغبون في إثارة أي جدل. دعوني أؤكد أن مصدر القلق ليس اعتبار هؤلاء الأشخاص دون المستوى من حيث الاستعداد لخدمة الولايات المتحدة، وإنما الخشية منشأها أنهم قد لا يكونون ملتزمين بشكل لا لبس فيه بمساعدة دولة أجنبية.
هذه الوضع غير الصحي يمنع الإدارات الديمقراطية والجمهورية على حد سواء من الاستفادة من أفضل المهارات ويضيف إلى التضليل المتنامي في الخطاب الحكومي الأمريكي. سريعاً ما يتعلم الموظفون الطامحون الذين يعينون حديثاً في مراكز صنع القرار ألا ينطقوا بما يجول في خاطرهم حول القضايا المتعلقة بإسرائيل، وبدلاً من ذلك يرددون عبارات مألوفة حتى لو كانت مناقضة للحقيقة. وعندما ينفجر صراع كالعنف الذي حدث مؤخراً في غزة، تجد المسؤولين الرسميين والناطقين الإعلاميين باسمهم يتلوون أمام منصاتهم، وهم يحاولون تجنب قول أي شيء قد يوقعهم هم أو المسؤولين عنهم في مشكلة. والخطر ليس في احتمال أن يقعوا في الكذب وإنما يكمن الخطر الحقيقي في أن ينطقوا عن غير قصد منهم بالحقيقة. كيف يمكن للمرء أن ينخرط في نقاش صادق ونزيه حول الإخفاقات المتكررة للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط عندما تكون العواقب المهنية لتحدي ما بات مألوفاً من رؤي تقليدية غير سارة؟.
التصدعات في العلاقة الخاصة بدأت بالظهور.. ولكن
والحقيقة هي أن التصدعات في العلاقة الخاصة بدأت في الظهور، وغدا أسهل الآن الحديث عن هذا الموضوع مما كان عليه الأمر من قبل (على افتراض أنك لا تأمل في الحصول على وظيفة في وزارة الخارجية أو في وزارة الدفاع)، ولقد ساعد أشخاص يتحلون بالشجاعة مثل بيتر بينارت ونيثان ثرول في اختراق حجب الجهل التي طالما أحاطت بهذه القضايا. ولقد غير بعض أنصار إسرائيل مواقفهم بطرق يستحقون الثناء عليها. فقط في الأسبوع الماضي نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالة تسرد فيه تفاصيل الصراع بشكل لم يسبق أن أقدمت عليه من قبل. لقد بدأت الكليشهات القديمة مثل “حل الدولتين” وكذلك “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها قوتها الساحرة، وما لبثنا أن رأينا مؤخراً حتى بعض الشيوخ والنواب يخففون من حدة دعمهم لإسرائيل – على الأقل من حيث اللغة المستخدمة. ولكن يبقى السؤال الأهم هو ما إذا كان هذا التغيير في الخطاب سيؤدي إلى تبدل حقيقي في سياسة الولايات المتحدة، ومتى.
إن المطالبة بإنهاء العلاقة الخاصة لا تعني الدعوة إلى المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات أو إلى إنهاء كل أشكال الدعم الأمريكي، وإنما هي مطالبة بأن تكون للولايات المتحدة علاقة طبيعية مع إسرائيل مثلها مثل علاقات واشنطن بالبلدان الأخرى. ومن خلال العلاقة الطبيعية سوف تقوم واشنطن بمساندة إسرائيل عندما تقدم على فعل أشياء تنسجم مع مصالح وقيم الولايات المتحدة بينما تنأى بنفسها عنها عندما تتصرف إسرائيل بشكل مخالف. وسوف تتوقف الولايات المتحدة عن حماية إسرائيل من الإدانة في مجلس الأمن الدولي، إلا حينما تستحق إسرائيل عن جدارة مثل تلك الحماية. وحينها لن يجد المسؤولون الأمريكيون حرجاً في توجيه انتقادات صريحة بلغة مباشرة لنظام الأبارتيد في إسرائيل. وسيكون السياسيون والمعلقون وصناع السياسية في الولايات المتحدة أحراراً في أن يشيدوا بأعمال إسرائيل أو أن ينتقدوها – تماماً كما يفعلون بانتظام في حال البلدان الأخرى – دون الخشية من أن يفقدوا وظائفهم أو أن يتعرضوا لحملات تشويه وتلطيخ سمعة بدوافع سياسية بحتة.
لا تعني العلاقة الطبيعية الطلاق، بل لسوف تستمر الولايات المتحدة في التعامل التجاري مع إسرائيل، ولسوف تستمر المؤسسات الأمريكية في التعاون مع نظيراتها الإسرائيلية في عدد من المشاريع. ولسوف يستمر الأمريكان في زيارة الأرض المقدسة، ولسوف يستمر الطلاب والأكاديميون من البلدين في الدراسة والعمل في جامعات كل من الطرفين. ويمكن للحكومتين أن تتشاورا من حين لآخر حول مجموعة من قضايا السياسة الخارجية. ولسوف تبقى الولايات المتحدة على استعداد لأن تهب لنجدة إسرائيل فيما لو تعرض وجودها للخطر تماماً كما تفعل في حال البلدان الأخرى. ولسوف تستمر واشنطن كذلك في موقفها الحازم المعارض لمعاداة السامية في العالم العربي وفي البلدان الأجنبية الأخرى وكذلك داخل فنائها الخلفي.
كما ستعود العلاقة الطبيعية بالنفع على إسرائيل نفسها. فمنذ وقت طويل سمح الدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل بانتهاج سياسات طالما كانت لها آثار عكسية الأمر الذي جعل مستقبلها على المدى البعيد يبدو موضع شك كبير. وتأتي في مقدمة تلك السياسات مشاريع الاستيطان نفسها والرغبة التي لم تعد تخفى على أحد في إقامة إسرائيل الكبرى من خلال ضم الضفة الغربية وحشر الفلسطينيين في أرخبيل من الجيوب المعزولة. ولكن يمكن للمرء أن يضيف إلى القائمة غزو لبنان في عام 1982 الذي أنتج حزب الله، والجهود الإسرائيلية السابقة لتعزيز حماس من أجل إضعاف فتح، والهجوم الفتاك على سفينة مافي مرمرة التي كانت تحمل مواد الإغاثة إلى غزة في مايو / أيار من عام 2010، والحرب الجوية الوحشية ضد لبنان في عام 2006 والتي عززت من شعبية حزب الله، والاعتداءات السابقة على غزة في 2008 و 2009 و 2012 و 2014. كما أن عدم استعداد الولايات المتحدة ربط مساعداتها لإسرائيل بشرط أن يحصل الفلسطينيون دولة قابلة للحياة هو الذي نجم عنه فشل عملية أوسلو للسلام وأهدر أفضل فرصة للتوصل إلى تسوية حقيقية تقوم على حل الدولتين.
من شأن العلاقة الطبيعية بين البلدين – وهي العلاقة التي يكون فيها الدعم الأمريكي مشروطاً بدلاً من أن يكون تلقائياً – أن تجبر الإسرائيليين على إعادة النظر في مسارهم الحالي وعمل المزيد من أجل تحقيق سلام حقيقي دائم. ولسوف يتوجب عليهم بشكل خاص إعادة التفكير في الاعتقاد السائد لديهم بأن الفلسطينيين بكل بساطة سوف يختفون، ثم البدء في النظر في حلول تضمن الحقوق السياسية لليهود والعرب على حد سواء. ليست المقاربة التي تقوم على الحقوق نوعاً من الترياق السحري، بل لسوف تواجهها عقبات، ولكنها ستكون منسجمة مع القيم التي تعلن الولايات المتحدة عن التمسك بها وتعطي أملاً أكبر في المستقبل مما تقوم به إسرائيل والولايات المتحدة في الوقت الراهن. والأهم من كل شيء، سوف يتوجب على إسرائيل البدء في تفكيك منظومة الأبارتيد التي أقامتها على مدى عقود، لأن الولايات المتحدة ستجد صعوبة متزايدة حتى في الإبقاء على العلاقة الطبيعية إذا ما بقي ذلك النظام قائماً. ولا يعني أي من هذه المواقف أدنى موافقة أو تأييد لحركة حماس، والتي تعتبر مذنبة بنفس القدر في ارتكاب جرائم حرب في جولة الاقتتال التي وقعت مؤخراً.
هل نرى تغييرا في الوقت القريب؟
هل أتوقع للتغييرات التي ورد ذكرها هنا أن تحصل في أي وقت قريب؟ لا، لا أتوقع ذلك. فرغم أن العلاقة الطبيعية مع إسرائيل – على غرار تلك التي تقيمها الولايات المتحدة مع كل البلدان الأخرى في العالم – لا ينبغي أن تكون فكرة مثيرة للجدل، إلا أنه ما تزال هناك مجموعات مصالح قوية تدافع عن العلاقة الخاصة ومازال الكثير من السياسيين متمسكين برؤية قديمة للمشكلة رغم أنها عفا عليها الزمن. ومع ذلك، فقد يكون التغيير وارداً جداً وأقرب مما يظن البعض، بدليل أن المدافعين عن الوضع القائم يسارعون إلى تشويه صورة وتهميش كل من يقترح بديلاً له. لا زلت أذكر عصراً كان يُسمح للناس فيه بالتدخين على متن الطائرات، وكان زواج المثليين فيه أمراً لا يمكن تصوره، وعندما كانت موسكو تحكم أوروبا الشرقية بقبضة من حديد، وعندما كان قلة قليلة من الناس لا يستهجنون وجود النساء أو أصحاب البشرة الملونة داخل قاعات مجالس الإدارة أو ضمن هيئات التدريس الجامعية أو في الوظائف الحكومية العليا. حالما يصبح النقاش حول قضية من القضايا أكثر انفتاحاً وأكثر نزاهة وصدقاً فإن الأمزجة القديمة تبدأ بالتحول بسرعة مذهلة، وما كان ذات يوم مما لا يخطر ببال يمكن أن يصبح يوماً ممكناً – وحتى طبيعياً.