بنزرت كانت محطتهم الأخيرة.. قصة 6 آلاف بحار روسي لجؤوا إلى تونس إبان الثورة البلشفية
تصطف الصور المعلقة على جدران متحف سرب البحرية الروسي بمدينة بنزرت شمالي تونس بانضباط طابور عسكري، عالم من الوجوه والملامح بالأبيض والأسود اعتكف في ركن هادئ بعيدا عن الأعين وضوضاء المدينة يحكي قصة هرب نحو 6 آلاف ضابط بحرية روسي وعائلاتهم إلى بنزرت من جحيم الحرب الأهلية التي أنهت حكم القيصر بعد اندلاع الثورة البلشفية.
وأفضت الحرب التي هزّت روسيا القيصرية سنة 1917 إلى مغادرة أكثر من 150 ألف مواطن روسي مع قوات الجنرال رانجل من سواحل جزيرة القرم، إذ وصلت إلى ميناء بنزرت 33 سفينة من سرب الإمبراطورية الروسية على متنها 6 آلاف ضابط وعائلاتهم، وتم ذلك إثر موافقة فرنسا على استقبالهم في مستعمرتها التونسية لأسباب إنسانية وسياسية وعسكرية تتعلق بالقطع البحرية المكونة للسرب.
ويعدّ هذا المتحف الأثر المادي الوحيد الذي يخلد ذاكرة لجوء الجيش الأبيض الروسي ( تسمية روسية لقوات البحرية الروسية) إلى بنزرت وتعتني به الطبيبة الروسية المتقاعدة من مستشفيات بنزرت لاريزا بوغدانوفا (80 عاما) بصفة تطوعية. هذا المتحف ليس مفتوحا للعموم مثل جلّ المتاحف، بل يكون استقبال زائريه بناء على مواعيد سابقة وتنسيق مع السيدة بوغدانوفا التي تمثل ذاكرته الحية حاليا.
وجوه تأبى النسيان
ولعل اللافت للانتباه كمية الصور الفوتوغرافية التي تطغى على محتويات متحف السرب الإمبراطوري الروسي، هذه الصور التي تعود إلى قرن من الزمن تجسّد مراحل من حياة آلاف الروس الذين أصبحوا بلا وطن ولا هوية رسمية بعد إعلان قيام روسيا السوفياتية عام 1917، ومعظم أصحاب هذه الصور كانوا من نخبة ضباط القوات البحرية الروسية ومن الأتباع والمقربين من الإمبراطور نيكولاي الثاني.
تقول بوغدانوفا إن المتحف هو احتفاء بالذاكرة الوطنية الروسية، ويؤرخ لحقبة تراجيدية من تاريخ البلاد، وإن الصور التي تضمها ردهاته اعتراف بالتضحيات الجسيمة التي كان على البحّارة الروس تقديمها نظير ولائهم للوطن في تلك الحقبة، وهي بالأساس تخليد لمراحل حياتهم في بنزرت منذ قدومهم على متن سفن البحرية وإقامتهم عليها مدة 4 سنوات ثم تفكيكها ودخولهم المجتمع التونسي آنذاك.
وتضيف -للجزيرة نت- أن مأساة البحارة الروس لم تقف عند الهرب والإبحار نحو المجهول في شتاء سنة 1920، بل تحولت إلى ملحمة نضالية أصرّوا فيها على المحافظة على ثقافتهم والتفوا حول جذورهم رغم الكم الهائل من الألم الذي رافق اندماجهم بالمجتمع التونسي الفرنسي في تلك المرحلة، من ذلك بناء كنيسة القديس ألكسندر فينسكي على تخوم بنزرت والمدرسة البحرية في منطقة الجبل الكبير.
ويذكر كتاب “بنزرت.. المرفأ الأخير” أنه مع سقوط الإمبراطورية الروسية سنة 1918 بإعدام الإمبراطور الأخير نيكولاي الثاني وعائلته، طالبت باريس أفراد سرب البحرية الروسي بإخلاء السفن والبوارج الحربية الراسية في ميناء بنزرت، بعد أن كانت فرضت عليهم الإقامة فيها مدة 4 سنوات كإجراء احترازي تلاه وقف تدريجي للتمويلات والإعانات التي خصصت لهم، معلنة بذلك صفحة جديدة من مأساة اللاجئين الروس في بنزرت فرضت عليهم تنازلات عن رتبهم العسكرية العالية والقبول بوظائف أقل بكثير من مؤهلاتهم، من بينها العمل لدى المعمرين في الفلاحة وغيرها من المهن.
المحتويات و مصادرها
ويحتوي المتحف في جزء مهم منه على أرشيف ضخم لصور فوتوغرافية باللونين الأبيض والأسود تعود أحدثها إلى أكثر من قرن من الزمن، هذه الصور تهم بالأساس أفراد سرب البحرية الإمبراطورية وعائلاتهم، بعضها التقط في روسيا ويعدّ من الذكريات الشخصية لأفراد السرب، وبعضها في بنزرت في أوائل القرن الـ20 يخلد مناسبات ولقاءات عامة ضمّت اللاجئين الروس في ذلك الوقت.
ويضم في جزء آخر بعض الأغراض والمقتنيات الشخصية للعائلات الروسية من بينها مكتب وكرسي يقدر عمرهما بأكثر من 100 سنة يعودان إلى الكاتبة الشهيرة أناستازيا شيرنسكي (تلقب بآخر اللاجئين الروس في بنزرت وتوفيت عام 2009) التي قدمت إلى بنزرت وعمرها 8 سنوات مع والدها قائد سرب البحرية، فضلا عن بعض التحف والأمتعة الخفيفة التي أخذها بعضهم من منازلهم التي لن يعودوا إليها، لدى هربهم من الحرب الأهلية في روسيا في تلك الحقبة.
وهناك أرشيف وثائقي ومخطوطات روسية قديمة ومذكرات شخصية جمعت من المدرسة البحرية التي أسسها البحارة الروس لتكوين فرقها الشابة على أمل الرجوع إلى الوطن، والتي أُغلقت نهائيا بقرار سياسي من السلطات الفرنسية سنة 1924، وكذلك توجد بعض النياشين والميداليات العسكرية لبعض ضباط السرب الروسي المقيم في بنزرت.
في هذا السياق تقول بوغدانوفا إن محتويات متحف السرب الروسي جمعت نهائيا في الصورة التي هي عليها الآن من ناحية تنظيمها وتوزيعها داخل الفضاء سنة 2008 بجهود عدد من الأطراف على غرار مؤسسة المحافظة على الإرث التاريخي والثقافي أ.م. شيرنسكي، وذلك للتعريف بمعاناة أفراد السرب الروسي وتمريرها إلى الأجيال القادمة لاستخلاص العبر ولتعميق شعور الانتماء للوطن روسيا.
السيدة بوغدانوفا ترى أن ما تقوم به من محافظة على المتحف وإرشاد للزائرين الذين يفدون إليه من وقت إلى آخر، بمنزلة رسالة وفاء وعرفان لجيل من أبناء وطنها ومهمة نبيلة تقوم بها على بعد آلاف الأميال من وطنها.
الجزيرة