نوري باشا كيلّيغيل جنرال تركي دفع ثمن تصنيعه للسلاح
لم يحظ الجنرال العثماني، نوري باشا كيلّيغيل، بشهرة واسعة في الأوساط العربية والفلسطينية خاصة، خاصة وأنه أحد أبرز الشخصيات في التاريخ التركي، ممن دافعوا عن القضية الفلسطينية، بالسلاح ضد الاحتلال الإسرائيلي، في بدايات النكبة.
وعمل نوري باشا، الذي كان جنرالا رفيعا في الجيش العثماني، على تطوير قدرات تركيا الحديثة في إنتاج الأسلحة، خلال الثلاثينيات، وتمكن من تحقيق إنجازات كبيرة، وصولا إلى تأسيس مصنع بمنطقة “سوتلوجه”، على ضفاف خليج القرن الذهبي بإسطنبول، عام 1946.
ونوري باشا هو مؤسس “جيش القوقاز الإسلامي”، وهي فرقة عسكرية عثمانية؛ وذلك بتوجيه من أخيه “أنور باشا”؛ وزير الحرب آنذاك.
ونجح الجيش بقيادة نوري باشا، عام 1918، بدحر القوات الشيوعية الأرمنية والروسية التي حاولت احتلال أذربيجان، وانتصر بمعركة باكو، وهو ما يكسب شخصيته أهمية كبيرة لدى الأخيرة إلى اليوم، ودفعها إلى لعب دور في رد الاعتبار له عام 2016.
وفي آذار/ مارس من عام 1949، شهدت مدينة إسطنبول التركية انفجارا ضخما في مصنع للأسلحة والذخائر، راح ضحيته عشرات العمال، وكذلك مؤسس خط الإنتاج، الجنرال العثماني الملقب بـ”فاتح باكو”؛ نوري باشا كيلّيغيل.
لم يحظ الحدث المفجع باهتمام كبير آنذاك رغم مشهد تقطع أوصال الضحايا، فضلا عن القيمة العسكرية الكبيرة لشخص “نوري باشا”، وتوقف عجلة الإنتاج المحلي وتفاقم اعتماد تركيا على السلاح المستورد، وأخيرا وليس آخرا؛ انتهاء تدفق السلاح التركي إلى فلسطين وإلى جيوش عربية ضد الاحتلال الإسرائيلي.
ووفق تقارير صحفية ورسمية فقد جمع رفات الضحايا الـ28، بمن فيهم “نوري باشا”، في ثلاثة توابيت، وتم دفنهم بدون جنازة رسمية، ولم يتم رد الاعتبار لهم إلا بعد مرور نحو سبعة عقود، عام 2016.
وبمناسبة الذكرى السبعين لمصرع نوري باشا، نشر الموقع الرسمي لقائم مقامية منطقة “السلطان أيوب”، في إسطنبول، تقريرا أشار فيه إلى أن المصنع المنكوب كان يصدر السلاح إلى فلسطين، وإلى دول عربية، دعما لها في الحرب ضد الاحتلال الإسرائيلي.
ولفت التقرير إلى أن المصنع، وهو الأول لإنتاج الأسلحة بعد تأسيس الجمهورية؛ أرسل “أسلحة وذخائر للجيوش العربية خلال الحرب العربية الإسرائيلية، ولم يعترف بقرارات الأمم المتحدة (بتقسيم فلسطين) وأرسل أسلحة وذخائر للفلسطينيين لدعمهم في النضال من أجل حقوقهم وحريتهم”.
لكن التقرير اكتفى بعد ذلك بالإشارة إلى حادث الانفجار دون الخوض في الملابسات، إلا أن المؤرخ التركي “أتيلّا أورال”، الذي أصدر كتابا عن حياة نوري باشا تضمن معلومات وصورا ووثائق تنشر لأول مرة، وبات مرجعا للمصادر الرسمية؛ تحدث عن “مؤامرة” ضد الجنرال.
وبحسب تقرير لصحيفة “حرييت”؛ فقد ربط “أورال” بين الانفجار وضغوط تعرض لها نوري باشا، أجبرته على إعلان إيقاف الإنتاج، مع مواصلته بشكل سري.
الباحث التركي في التاريخ العثماني، محمد عثمانلي، من جامعة “باموق قلعة”؛ قال إن سيناريو “الاغتيال” ليس مستبعدا، مؤكدا أن توقيت حدوث الانفجار، بالتزامن مع تواجد نوري باشا ورفاقه في المصنع؛ مثير للريبة، فضلا عن إهمال التحقيق بالحادث، وكذلك إهمال جنازته، والمسار الذي أسس له؛ سواء بإنتاج سلاح محلي أو دعم القضية الفلسطينية.
ومن اللافت أيضا أن الانفجار الذي وقع في 2 آذار/ مارس 1949، تبعه، مباشرة، اعتراف تركيا بدولة الاحتلال الإسرائيلي، وكان ذلك في الـ28 من الشهر نفسه.
وذكّر عثمانلي بأن البلاد شهدت عمليات اغتيال مشابهة في نهايات الدولة العثمانية وبدايات الجمهورية، لافتا إلى أن مؤسس تركيا الحديثة نفسه، مصطفى كمال أتاتورك، تعرض لعدة محاولات اغتيال، فضلا عن الغموض إزاء مقتل قادة الاتحاديين، كما يعتقد أن بريطانيا تقف وراء تدبير اغتيال “سعيد حليم باشا”، الذي كان صدرا أعظم سابقا وذو نفوذ وتأثير كبيرين.
وأوضح عثمانلي أن عدة عوامل منحت نوري باشا تلك الحرية في نشاطه العسكري بعيدا عن الموقف الرسمي للجمهورية حديثة النشأة.
ولفت عثمانلي أولا إلى أن الجمهورية التركية، سواء في حياة أتاتورك أو بعد وفاته، وصولا إلى النكبة؛ لم تكن تهتم بالقضية الفلسطينية، “لا إيجابا ولا سلبا”.
وأضاف أن أنقرة لم تكن ترى في القضية الفلسطينية سياقا ذا أهمية خاصة مختلفا عما تشهده بقية مناطق العالم العربي والإسلامي، فضلا عن قيام الجمهورية على أساس قطع العلاقة مع المرحلة العثمانية بكل معطياتها.
وإضافة إلى هذا وذاك، فقد كان النظام الجديد مشغولا بالأوضاع الداخلية، بحسب عثمانلي؛ الذي أكد أن الاضطرابات وتبعاتها تواصلت حتى بعد وفاة أتاتورك عام 1938.
ولفت عثمانلي إلى أن المواقف التركية كانت ترتبط بالعديد من الحسابات الداخلية والخارجية الأخرى، فقد كان هنالك أيضا سياق الحرب العالمية الثانية، والرغبة بعدم التدخل في أزمة تترتب عليها أعباء دولية، والحرص على الالتزام بالإطار الدولي والقرارات الأممية على أساس مبدأ “سلام في الداخل سلام في الخارج” الذي أسس له أتاتورك، بما في ذلك القبول بقرار إنشاء “إسرائيل”، رغم تصويت أنقرة ضده.
ووفرت حالة “عدم الاهتمام” التركية الرسمية تلك لـ”نوري باشا” حرية للعمل من أجل فلسطين، لكن ذلك الباب أغلق بقرار التقسيم وهزيمة العرب عام 1948.