كيف يحاول ماكرون الانسحاب من مستنقع مالي في حربه الخاسرة؟
قبل عام، وخلال القمة المنعقدة في مدينة باو الواقعة جنوبي فرنسا، قرر الرئيس الفرنسي ونظراؤه من مجموعة دول الساحل الخمس (موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد) تصعيد القتال ضد “المتطرفين” لوقف دوامة العنف الذي انتشر في جميع أنحاء منطقة الساحل، بعد ذلك أرسل الرئيس إيمانويل ماكرون أكثر من 600 جندي لتعزيز هذه المنطقة وهو ما يساوي عدد القوات الأوربية الموجودة هناك.
منذ ذلك الوقت كثفت فرنسا وحلفاؤها عملياتها العسكرية في عدة مناطق تحت عنوان “محاربة الإرهاب”، فيما يعرف بعملية برخان، خسرت خلالها عدداً كبيراً من جنودها فيما اتُهمت أكثر من مرة باستهداف المدنيين التي كان آخرها ما بات يعرف بقصف “عرس الصحراء”.
ولكن يأتي التصعيد الفرنسي من أجل هدف بات رئيسياً بالنسبة لإدارة ماكرون، التي تحاول استجماع قواتها قبل الانتخابات، وهو سحب القوات من دول الساحل مع ضمان بقاء مصالح فرنسا هناك، من أجل تجنب الضغوط المتزايدة عليه من الداخل، وتخفيف الخسارات البشرية والمادية.
محاولات الانسحاب
من أجل تخفيف وجودها، تعتمد فرنسا بشكل كبير على نشر وحدات النخبة الأوروبية ضمن قوة تاكوبا الجديدة، المسؤولة عن مرافقة الجيش المالي في القتال. هذا التجمع من القوات الخاصة، الذي أنشئ بمبادرة من باريس، والذي يجمع اليوم بين الفرنسيين والإستونيين والتشيكيين، يخوض معارك ميدانية شرسة، كان آخرها ما أعلن عنه الجيش المالي بأنه نجح بالتعاون مع القوات الفرنسية في قتل أكثر من 100 من الجماعات “المتطرفة” في الفترة بين 2 و20 يناير/كانون الثاني الجاري.
مع ذلك، تصر باريس على الانسحاب هذه المرة، وهو ما سيكون على رأس الملفات خلال القمة المقبلة مع دول الساحل الخمس المقرر عقدها في العاصمة التشادية نجامينا يومي 15 و 16 فبراير/شباط القادم، إذ أشار الإليزيه إلى أن ماكرون سيذهب إلى هناك إذا سمح السياق الصحي بذلك.
القرار الحاسم بالانسحاب يأتي في ظل اعتقاد راسخ لدى فرنسا بأنها حققت نتائج عسكرية مهمة، والتي جاءت بالتعاون مع الولايات المتحدة، التي توفر قدرات استخباراتية ومراقبة مهمة، وتزود الطائرات بالوقود أثناء العمليات، وتؤمن النقل اللوجستي، بتكلفة 45 مليون دولار سنوياً.
انعكس هذا الدعم على القرار الذي اتخذه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب في أوائل عام 2020 بتقليص وجود بلاده العسكري في إفريقيا، وهو ما جعل فرنسا تسارع في قرار الانسحاب، ورغم وصول إدارة بايدن الذي قد يسهل الحوار بين الطرفين، إلا أن ذلك لا يمنع قرار سحب القوات في أية لحظة.
في مواجهة ضغوط الداخل
أشار استفتاء بمناسبة الذكرى الثامنة للتدخل الفرنسي في مالي، إلى إن 51% من الفرنسيين يعارضون استمرار العملية التي أطلقها الرئيس السابق فرانسوا هولاند في 2013 تحت اسم سيرفال وتوسعت في 2014 لتصبح عملية برخان في كل الساحل. وهذا التحول في الرأي العام الذي كان يؤيد التدخل بنسبة 73% في بداياتها، يعود للمراوحة ولتفاقم عمليات في مالي والنيجر وبوركينا فاسو.
ويبدو أن تجربة مجموعة الخمس في الساحل (بوركينا فاسو ومالي وموريتانيا والنيجر وتشاد)، والدعم الأوروبي الخجول، والدعم اللوجستي الأمريكي، ليست عوامل كافية لتحقيق الاستقرار في هذه المنطقة المضطربة. ولذا يواجه صانع القرار الفرنسي معضلة صعبة: إخلاء القوات الفرنسية أو تكثيف وجودها هناك. في مواجهة عدم وجود حلول مرضية تلوح في الأفق، ومن هنا يتوجب على فرنسا أن تناور لتكييف استجاباتها مع الوضع السياسي والميداني في مالي، والتعامل مع الأوضاع المتصاعدة في منطقة الساحل.
التفوق التكتيكي الفرنسي غير قادر على ضمان الاستقرار الدائم وهناك حاجة إلى حل سياسي حتى لا تفشل المهمة الفرنسية، خاصة أن فرنسا لوحدها عملياً في الميدان مع انهيار الدولة وفقدان سيطرتها على حوالي ثلثي الأراضي في مالي بالإضافة إلى وجود الجماعات المتمردة المحلية مثل الطوارق، والتكامل التنافسي بين تنظيمي القاعدة وداعش الإرهابيين مما يعقد المعادلة.
وبعد الانقلاب العسكري في مالي في أغسطس/آب 2020، هناك حديث عن مفاوضات محتملة بين الجماعات المتمردة والقوات المركزية، ولوحظ أن فرنسا لم تعد تمانع مبدأ التفاوض مع المتمردين وتضع فيتو على مفاوضات مع التنظيمات الإرهابية ولا يستبعد أن تقدم هذه المفاوضات لفرنسا طريقة للخروج من المأزق في مالي تحفظ ماء وجهها.
وتتضارب التقييمات بخصوص نتائج التدخل الذي كان ضرورياً في كبح المخاطر الأمنية أو الحفاظ على المصالح الفرنسية الاستراتيجية والاقتصادية. لكن عدم وجود تهديد إرهابي مباشر انطلاقاً من الساحل واستمرار الخسائر بين الجنود الفرنسيين، يدفعان للتفكير في إيجاد مخرج، وهو ما يجعل الانسحاب التدريجي والمدروس يبدو الخيار الأنسب، لكنه يتطلب شجاعة سياسية وبناء علاقة سليمة بين فرنسا وإفريقيا.
مستنقع مالي
قبل أيام تساءلت صحيفة “لوموند” في افتتاحيتها؛ ماذا تفعل فرنسا في مالي؟ موضحة أن الجواب على هذا السؤال ما زال غامضاً، ورغم أن السبب كان الوعد بأن تكون حماية الجنود الفرنسيين لدولة مالي قادرة على كبح جماح التهديد الأمني من الجماعات “المتطرفة”، وإعادة إعمار البلد، والاستجابة لاحتياجات السكان، إلا أن الصحيفة رأت أن هذه الحجج تحطمت مع فشل الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا، الذي عوقب في أغسطس/آب 2020، بالإطاحة به عبر انقلاب عسكري.
ومع أن عمليات فرنسا هذه في مالي -كما تؤكد الصحيفة- حيّدت العديد من القادة” المتطرفين”، وحدّت من التواصل بين منطقة الساحل والمستنقع الليبي، فإنها لم تمنع تصاعد العنف بين المدنيين.
ونبهت الصحيفة إلى أن الجيش الفرنسي، حتى قبل مقتل 5 من جنوده مؤخراً مما رفع عدد القتلى الفرنسيين إلى 50 منذ عام 2013، كان يدرك خطر الوقوع في مستنقع في منطقة بحجم إفريقيا، إلى درجة أنه فكر في تقليص وجوده مبكراً.
ورغم أن مثل هذا الاحتمال يصعب إضفاء الطابع الرسمي عليه في أعقاب هذه المآسي الإنسانية، كما ترى الصحيفة، فإن استبعاده لم يعد ممكناً؛ لكن ليس في شكل انسحاب وحشي يشكل تشجيعاً للجماعات المقاتلة وصدمة أخرى لبلد عانى الكثير، ومع ذلك فإن كلاً من الاعتبارات العسكرية والسياسية تدفع الآن باتجاه التقليص.
وعللت الصحيفة ذلك بأن عملية “برخان” تستهلك عدداً كبيراً من الموظفين، الذين يحتاج إليهم البلد في أماكن أخرى، نظراً لتكاثر مسارح التوتر في عالم غير مستقر، كما أنه رسالة إلى السلطات القائمة هناك، خاصة أنها ليست موالية دائماً لفرنسا، مفادها أن حماية باريس ليست حقاً لها، وأن على جنودها أن يتولوا المسؤولية.
وأشارت الصحيفة إلى أن القضيتين اللتين أثارتا مخاوف فرنسا، وحفزتا تدخل باريس، تحتاجان إلى إعادة تقييم، ألا وهما موجة الهجرة وعدوى “الإرهاب”، من ناحية، و “استيلاء الإسلاميين على دولة ناطقة بالفرنسية مع احتمال تمددهم في منطقة خليج غينيا بأكمله من ناحية أخرى”.
وخلصت لوموند إلى أن تجربة الانسحاب الأمريكي المروعة من أفغانستان تدعو باريس إلى الحذر الشديد، خاصة أن طموحات روسيا في إفريقيا تجعلها على استعداد للاستفادة من الانتكاسة الفرنسية.
ولكن الخروج من المستنقع المالي، إذا كان يهم فرنسا حقيقة، فإنه لا يمكن أن يكون عسكرياً فقط؛ بل سياسياً كذلك، بحيث تجب مراعاة كل الحساسيات القائمة في هذا البلد.
المصدر: TRT عربي