كاد العثمانيون أن يقضون على الإمبراطورية الروسية تماماً – مركة بروت
كان الصراع العثماني الروسي أحد أهمّ وأبرز وأعنف الصراعات التي نشأت في القرن السادس عشر واستمرّت حتّى سقطت كلا الإمبراطوريتين في الحرب العالمية الأولى. وقد نشبت بين الدولتين أكثر من 10 حروب، يمكنك القراءة بالتفصيل عنها هنا.
لكن من بين كلّ تلك الحروب كانت هناك حربٌ مميزة، إذ كان يمكن فيها للعثمانيين القضاء على الإمبراطورية الروسية تماماً، أو على الأقل إدخالها في صراعات داخلية ضخمة قد تودي بها في النهاية إلى الانهيار.
في البداية، لنشرح “الحرب العالمية” في ذلك الوقت
في هذه المرحلة، وبدايةً من القرن الخامس عشر وبالدخول أكثر في القرن السادس عشر، كانت عدّة دول كبرى هي التي تتحكّم في العالم، وبالتالي تتصارع عليه. بالطبع كانت فرنسا وبريطانيا إحدى أبرز تلك القوى، إضافةً إلى الدولة العثمانية والإمبراطورية الروسية الناشئة، وكذلك النمسا.
إلى جانب هذه الدول كان هناك دول قوية وإن ليست بنفس القوى للدول العظمى، مثل السويد وبولندا والبرتغال وغيرها من الدول الأصغر.
تمثّل الصراع الكبير بين روسيا والدولة العثمانية في أنّ روسيا دولة بلا منافذ بحرية جيدة، إذ إنّ بحر البلطيق يتجمّد في الشتاء ما يصعِّب عليها حركة التجارة مع بقية الدول الأوروبيّة، يضاف إلى ذلك أنّها عندما تحوّلت إلى المذهب الأروثوذكسي اعتبرت نفسها وريثةً للإمبراطورية البيزنطية الأورثوذكسية، وهكذا تجذَّر الصراع بين الإمبراطوريتين.
على الجانب الآخر كانت مواقف الدول الأوروبيّة تتغيّر وفق مصلحتها بالطبع، فتارةً تتلاقى مصالحها مع الدولة العثمانية وتارة تتلاقى مع الإمبراطورية الروسيّة. لكنّ بريطانيا على وجه التحديد كانت ترى في روسيا تهديداً مباشراً لمصالحها، ولذلك عمدت مراراً لدعم الدولة العثمانية في حروبها مع الدولة الروسية. على العكس من غيرها من الدول الأوروبيّة، هذا لأنّ روسيا كانت تنافسها في الطرف الآخر من العالم، في وسط وجنوب غرب آسيا، ناحية الهند وأفغانستان.
بطرس الأكبر ومحاولة بناء روسيا الكبرى!
يعتبر بيتر أو بطرس الأكبر أحد أعظم من حكم روسيا في التاريخ. حكم بطرس طيلة 40 عاماً، من 1682 وحتّى عام 1725، وسعى في سنين حكمه إلى توسيع إمبراطوريته وتأسيس حكم له ولنسله ليحكم منطقة أكبر من روسيا.
وفي سبيل هذا بنى مدينة سانت بطرسبرغ على سواحل بحر البلطيق في أوروبا وجعلها عاصمته بدلاً من الحكم من آسيا، ومن هذه العاصمة حكمت سلالته لقرنين لاحقين. وفي سبيل توسيع حجم وتأثير إمبراطوريته بدأ في مناوشة القوى المجاورة، في محاولةٍ منه للوصول إلى المياة الدافئة في البحر المتوسّط، وهذا يقتضي الحرب مع الدولة العثمانية.
وفي وصاياه التي تركها لخلفائه، كتب بطرس الأكبر: ينبغي التقرُّب بقدر الإمكان من إسطنبول، فمن يتحكّم في إسطنبول يمكنه حقيقةً التحكُّم في بقية العالم، ولذلك ينبغي لنا أن نحارب الدولة العثمانية دائماً.
كانت سياسات بطرس الأكبر تلك هي التأسيس الحقيقي للإمبراطورية الروسية القيصرية الواسعة، الممتدة من أقاصي آسيا إلى شمال ووسط أوروبا، وما أسسه بطرس الأكبر سيظلّ يسبب صداعاً كبيراً لسلاطين الدولة العثمانية المتلاحقين، حتّى زوال الدولتين في عشرينيات القرن الماضي بخسارتهما في الحرب العالمية الأولى.
الدولة العثمانية من الداخل
تولّى السلطان أحمد الثالث السلطنة عام 1703، وحكم طيلة 27 عاماً، لكنّ تلك السبعة وعشرين عاماً لم تكن تماماً سلطةً تامّة له، ففي عهده وفي عهد السلاطين من قبله كانت قد بدأت سلطة العسكر الانكشارية في التصاعد بشكلٍ كبير، حتّى باتوا يولُّون ويعزلون السلطان نفسه.
وهكذا، فقد عيّن السلطان ابن أخته الداماد حسن باشا صدراً أعظم (وزير أكبر)، وقد كان حسن باشا كفئاً لهذه المهمّة فجدّد الترسانة الحربية وأنشأ العديد من المدارس، لكنّ تياراً آخر ظلّ يضغط على السلطان كثيراً حتّى عزله عن منصبه، وهكذا تعاقب على الوزارة عددٌ كبير من الوزراء، وكلّ هذا بالطبع جعل الجهاز الإداري للدولة غير منتبه للخطورة التي يمثلها عليه بطرس الأكبر وخطته لتوسيع دائرة نفوذ روسيا.
بدأ بطرس خطته الكبرى بصراعٍ مع الدول الأضعف بعض الشيء، بولونيا والسويد، وحارب كارل الثاني عشر ملك السويد وهزمه في معركة بولتافا الشهيرة، وهنا لجأ شارل الثاني عشر إلى الدولة العثمانية طالباً الحماية.
حاول كارل أولاً التحالف مع الدولة العثمانية ليحاربا معاً الإمبراطورية الروسية، لكنّه لم يجد آذاناً مُصغية.
معركة بروت، حين كاد الجيش العثماني يقضي على بطرس الأكبر
بعدما لجأ كارل الثاني عشر إلى السلطان أحمد الثالث، وجدتها روسيا فرصةً للتحرُّش بالدولة العثمانيّة، فطالبت بتسليم كارل الثاني عشر. في تلك المرحلة أدركت الدولة العثمانية أهميّة التحالف مع كارل. ورفضت تسليمه.
تغيّر الصدر الأعظم، وعُيِّن بلطة جي محمد باشا صدراً أعظم، وكان بلطة جي ميالاً للدخول في حربٍ مع الروس، وهكذا بدأ الإعداد لهذه المعركة.
وهكذا أعلنت الحرب على روسيا القيصرية في 20 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1710، وخرج بلطة جي بجيشٍ عثمانيّ ومعه كارل الثاني عشر.
بعدما أعلن بطرس غزو مولدوفا، سار الجيش العثماني المكوّن في بعض الروايات من 200 ألف جندي، واستطاع أن يهزم بطرس الأكبر، بل والأدهى من ذلك أن يحاصره تماماً.
وهنا كانت الفرصة الملائمة للقضاء على الإمبراطورية الروسيّة تماماً، أو على الأقل إغراقها في حربٍ أهلية بسبب أسر الإمبراطور أو قتله. لكنّ القدر احتفظ لبطرس الأكبر بـ 14 عاماً أخرى من الحكم سيؤثر فيها على قوة الدولة العثمانية بشكلٍ مباشر.
بعد ثلاثة أيّام من الحصار انتهى الحصار بشكلٍ غريب، وما زال سراً إلى الآن ما الذي حدث فجعل الصدر الأعظم يفكّ حصاره عن قيصر روسيا العظيم؟
ففي يوم 21 يوليو/تموز انتهى الحصار بتوقيع الطرفين على معاهدة بروت، وهنا بالطبع خابت آمال كارل الثاني عشر الذي كانت آماله بالعودة لحكم بلاده السويد.
نصت المعاهدة على عودة منطقة بلدة آزوف إلى العثمانيين، وهدم بعض القلاع والحصون الروسية التي بناها بطرس الأكبر، مع تعهُّده بالتوقُّف عن التدخل في شؤون الكومنولث البولندي الليتواني.
ما زال كل المحللين والمؤرخين تقريباً يعتبرون أنّ هذا السلام كان خطأ استراتيجياً من العثمانيين، فقد قبلوا بشروطِ سلامٍ مخفَّفة، بينما كان القيصر الروسي العظيم في قبضتهم.
نتج عن هذا الموقف رواية تقول بأنّ كاترينا زوجة القيصر قد قابلت بلطة جي محمد باشا وعرضت عليه كلّ مجوهراتها مقابل فكّ الحصار عن القيصر.
لكنّ هذه الرواية ضعيفة من عدّة أوجه، إذ إنّ زوجة القيصر نفسها ومجوهراتها والقيصر كانوا تحت قبضة الصدر الأعظم، فلماذا اختار معاهدة السلام بديلاً عن أسر القيصر؟! ربما كانت جبهته الداخلية ضعيفة واحتاج أن يعود بسرعة إلى العاصمة إسطنبول، وربما لم يكن يدرك البُعد الاستراتيجي لقرار السلام.
وعلى الرغم من أن أخبار النصر لاقت ترحيباً في البداية في إسطنبول، فإنّ تياراً كبيراً كان مستاءً من نتيجة الحرب، واستطاع في النهاية قلب الرأي العام ضدّ بلطة جي محمد باشا، وربما كانت رواية الرشوة التي أعطته إياها كاترينا من نسج هذا التيار.
وفي النهاية، عزل بلطة جي محمد باشا من منصبه.
استمر كارل الثاني عشر، وحليفه السياسي خان القرم دولت كراي الثاني، في الضغط للدفع بالسلطان أحمد الثالث إلى إعلان الحرب مرةً أخرى ضد بطرس الأكبر.
وفي الربيع التالي اقترب التيار المؤيد للحرب داخل الدولة العثمانية من غرضه، عندما اتهموا بطرس الأكبر بتأجيل الوفاء بشروط معاهدة السلام المتفاوض عليها. لكنّ الحرب تم تجنبها بأساليب دبلوماسية ووُقِّعت معاهدة أخرى في 17 أبريل/نيسان 1712 بين الإمبراطوريتين.
بينما بعد عامٍ واحد من توقيع المعاهدة الجديدة، نجح الحزب الداعي للحرب في مساعيه من جديد، بعد أن اتهم الروس هذه المرة بالتأخر في الانسحاب من بولندا، وأعلن السلطان أحمد الثالث قيام حرب أخرى في 30 أبريل/نيسان. ولم تُنفذ عمليات حربية كبيرة، فوُقعت معاهدة سلام ثالثة عقب ذلك بوقتٍ وجيز.
في النهاية، استاء السلطان من الحزب الداعي للحرب وقرر مساعدة ملك السويد في العودة إلى موطنه. وبالإضافة إلى ذلك، أطاح خان القرن دولت كراي الثاني من عرش خانية القرم ونفاه إلى جزيرة رودس التابعة للدولة العثمانية، لأنه لم يُظهر الاحترام الكافي لحليفه كارل الثاني عشر ملك السويد خلال الحملات على روسيا، فقد اعتبره دولت كراي الثاني أسيراً وتجاهل أوامره.
غادر كارل الثاني عشر الإمبراطورية العثمانية متوجهاً إلى شترالزوند في بوميرانيا السويدية، وعندها حاصرته قوات من ساكسونيا والدنمارك وبروسيا وروسيا، وقتل عام 1718 في النرويج.
المصدر: عرب بوست