الرئيس الفرنسي يطمح للعب دور القوة العظمى.. فهل يملك استراتيجية غير مواجهة تركيا
نشرت مجلة “فورين بوليسي” مقالا للزميل في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي ستيفن كوك قال فيه إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يريد أن يكون القوة العظمى في الشرق الأوسط. وقال: “عاد الفرنسيون إلى الشرق الأوسط، أو على الأقل هكذا يبدو الأمر. فالحديث هذه الأيام عن روسيا والصين اللتين تملآن الفراغ الذي يزعم أن الولايات المتحدة تركته في الشرق الأوسط. وتحاول فرنسا أن تكون جزءا من النقاش”. وقام الرئيس ماكرون في مدى شهر ونصف بزيارة لبنان مرتين وظهر فجأة في بغداد التي التقى فيها مع الرئيس العراقي برهم صالح ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي ورئيس حكومة إقليم كردستان نيجرفان بارزاني.
وعزز ماكرون من الوجود العسكري الفرنسي في المنطقة حيث نشر وحدات من البحرية الفرنسية بما فيها حاملة للمروحيات وفرقاطة في شرق المتوسط. ومن الناحية الرسمية فقد تم تبرير التحركات لدعم لبنان بعد الانفجار الهائل في مرفأ بيروت في 4 آب/أغسطس. وهذا لا يفسر وجود القوات الفرنسية والمقاتلات التي وصلت إلى الجزيرة اليونانية، كريت، ولا المقاتلتين اللتين ظهرتا في قبرص. وكان وجود البحرية بشكل محدد من أجل إظهار التضامن مع البحرية اليونانية والقيام بمناورة مشتركة. ويعلق كوك أن صناع السياسة في فرنسا طالما تمسكوا بأسطورة القوة الفرنسية في الشرق الأوسط، شمال إفريقيا وشرق المتوسط. ويبيعون أسلحة متقدمة لعدد من الدول وانضموا للبريطانيين والأمريكيين في أكثر من عملية عسكرية باستثناء غزو العراق ويشاركون في عمليات مكافحة الإرهاب في شمال إفريقيا. وبين الفترة والأخرى يعبر رئيس فرنسي عن تصميمه لحل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني. وكانت الجهود سرعان ما تختفي قبل أن تبدأ الجولة القادمة.
ويبدو الفرنسيون اليوم أكثر جدية فيما يتعلق بدورهم بالمنطقة. ويتقدم ماكرون الآن بزعم أن فرنسا مستعدة لاستخدام القوة من أجل تحقيق النظام والاستقرار في المنطقة. ولكن ما هو السبب. بعبارات أخرى هناك الطاقة واللاجئين وتركيا. وقبل عقد من الزمان قام نيكولاي ساركوزي بدعم تدخل عسكري دولي في ليبيا. ولم يكن الدافع وراء مشاركته نشر الديمقراطية بعد الإطاحة بنظام معمر القذافي ولكن الخوف من موجات اللاجئين بالإضافة للعنف الذي هدد القذافي باستخدامه لقمع الانتفاضة ضده. وهو نفس الهاجس الذي يدفع ماكرون ولكن بانحراف آخر.
وبدلا من الإطاحة بديكتاتور يتطلع ماكرون لمساعدة آخر الوصول إلى الحكم. فعندما دعمت فرنسا الجنرال خليفة حفتر، الجنرال العاجز من عهد القذافي والذي يقود الجيش الوطني الليبي كان دعمه ضد الحكومة المعترف بها دوليا في طرابلس، وكان الدعم قائما على حسبة باردة تفترض أن حفتر هو الرجل القوي الذي سيعيد النظام إلى ليبيا بشكل يمنع الليبيين والأفارقة من وصول الشواطئ الجنوبية لأوروبا.
كما أن مسألة المهاجرين هي التي تدفع فرنسا نحو لبنان. صحيح أن فرنسا باعتبارها المستعمر السابق رد على انهيار لبنان بنوع من الحنين، ويستحق ماكرون الثناء لأنه كان أول زعيم غربي عبر عن استعداد للتعامل مع المشكلة، لكن جزءا من المشكلة هو وصول لاجئين لبنانيين جدد إلى السواحل الأوروبية. وموجات السوريين التي وصلت إلى أوروبا ليست بعيدة وأدت لفوز الأحزاب اليمينية والنازية في عدد من الدول الأوروبية. ويريد ماكرون تجنب موجات جديدة خاصة أنه يواجه حملة انتخابية لإعادة انتخابه في 2022. وكشخص تهمه شعبيته فقد تراوحت في الأشهر الأخيرة من ضعيفة إلى قوية ثم عادت لوضعها السابق. وعلينا ألا ننسى ما يقع تحت أرض العراق ومياه لبنان وقبرص وليبيا ويهم فرنسا.
وتعتبر ليبيا البلد الذي يملك أكبر احتياط نفط في كل إفريقيا، ولهذا السبب تعمل شركة النفط الفرنسية توتال في ليبيا منذ سبعة عقود. وفي العراق تملك نفس الشركة مع مجموعة أخرى نسبة 22.5% من حقل النفط حلفايا و18% من حقوق التنقيب في كردستان. وتقوم بعمليات تنقيب عن الغاز في الساحل الجنوبي من قبرص قريبا من السواحل اللبنانية التي يعتقد أن في مياهها العميقة كميات كبيرة من مصادر الطاقة. وهذه التناقضات تخفي وراءها الكيفية التي تحاول فيها فرنسا حماية مصالحها في المنطقة بما فيها الجهود المتطورة للاستفادة من مصادر الطاقة في المنطقة. ثم هناك تركيا، فالعلاقة القائمة على سوء النوايا تذهب أبعد من غياب المودة بين ماكرون والرئيس رجب طيب أردوغان، والنظرة الدونية التي يتعامل فيها أردوغان مع نظيره الفرنسي. ففرنسا تشك إلى جانب عدد من الدول الأوروبية باستعداد تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
وبعيدا عن مظاهر القصور الحالية والتي لا تؤهلها لكي تنضم إلى الاتحاد الأوروبي، يرى المسؤولون الفرنسيون أن الاتحاد الأوروبي هو ناد مسيحي يشترك بالحدود الجغرافية، وهو ما لا يؤهل تركيا أبدا للانضمام إليه. كما أن حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا اليوم لا يساعد في الأمر. فهو اليوم أكثر ديكتاتورية وقومية وإسلامية وتشددا مما كان عليه عندما وصل إلى الحكم وتعامل معه الكثير في الغرب على أنه نموذج للإسلام الليبرالي في العالم الإسلامي. وبالطبع لم يجلب تهديد تركيا بفتح أبواب الهجرة على أوروبا الكثير من الأصدقاء خاصة في فرنسا. يضاف إلى هذا المدخل القاسي لتركيا في منطقة شرق المتوسط وشمال إفريقيا والمشرق. ومن منظور فرنسا، فتنقيب تركيا عن الغاز في شرق المتوسط يهدد دولة عضو في الاتحاد الأوروبي ومصالحها التجارية. كما أن دعم أنقرة لطرابلس يتعارض مع رغبة فرنسا الحد من تدفق المهاجرين ومكافحة الإرهاب بمنطقة الساحل الإفريقي. ولو أصبحت ليبيا دولة وكيلة لأنقرة، كما يحصل الآن، فعلى فرنسا التساؤل عن علاقة شركة توتال الطويلة مع طرابلس.
وكانت زيارة ماكرون إلى العراق في أيلول/سبتمبر حيث أكد فيها على سيادة العراق ودعمه للحكم الذاتي في إقليم كردستان، عادية مع أنها رسالة موجهة لتركيا وأن فرنسا لن تغض الطرف مثل بقية الدول ومن الولايات المتحدة، عندما تقوم تركيا بعمليات عسكرية ضد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق وضد رغبة حكومته. وحاول ماكرون القيام بعملية تخريب تهدف لمضايقة كل واحد في تركيا رغم الحساسية التركية والمعتبرة تجاه هذا الموضوع. ولكن الرهان الأكبر في الدراما التركية – الفرنسية هو في شرق المتوسط. فاستياء فرنسا من تنمر تركيا تجاه اليونان وقبرص مرتبط بالمعاهدة البحرية التي وقعتها أنقرة مع حكومة طرابلس عام 2019.
واعتقد الفرنسيون أنهم لن يقفوا متفرجين على تركيا التي رسمت المياه البحرية التي قسمت شرق المتوسط لصالحهم. ومع أن أنقرة كانت ترد على التحدي الجيوسياسي ضدها المكون من اليونان- قبرص- مصر وإسرائيل، إلا أن فرنسا تعاملت مع الأمر كمحاولة من تركيا لتأكيد سيادة لا ينازعها فيها أحد على المنطقة. ومن هنا جاء توثيق العلاقات مع اليونان وقبرص والقمة الأوروبية الناجحة التي كانت ضربة للدبلوماسية التركية. وقال كوك إن هناك الكثير من التعليقات حول الطاقة في شرق المتوسط والجزر وهي دقيقة لكنها لا تتعرض لأساس المشكلة وهي أن فرنسا قوة مهمة تتنافس مع قوة مهمة أخرى وهي تركيا على الميزات والقوة لتأكيد النظام. وبناء على الدول التي تحلقت حول فرنسا فالأخيرة لديها التميز.
ويعلق كوك أن ماكرون يستحق التقدير لدعمه لبنان في وقت لم يدعمه أحد، لكن ليس دعمه قبرص واليونان لمواجهة التنمر التركي، فليس واضحا ماذا يريد تحقيقه أبعد من الوقوف في وجه تركيا. وعلى ما يبدو لا يؤمن بشكل أكثر من إيمانه بنفسه. وكان لديه مساحة للتحرك في الشرق الأوسط وشرق المتوسط لتغيير المفاهيم لكنه بدأ بداية غير موفقة وفي تغريدة غير بارعة بعد نهاية المؤتمر “باكس الشرق الأوسط” وكان عليه أن يكتب: “لتبدأ اللعبة الكبيرة”.