كيف عززت تركيا مكانتها بالصناعات الثقيلة؟
على غرار الصناعات العسكرية، باتت تركيا تعتمد على الإنتاج المحلي في جزء كبير من متطلباتها في الصناعات المدنية، ولا سيما بعد ميلاد سيارتها الوطنية الأولى “توغ” (TOGG)، وسط طموحات واسعة بتحقيق الاكتفاء الذاتي والاعتماد كليا على الإنتاج المحلي.
وأكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن السيارة التركية المحلية الصنع ستكون رمزا لنهضة بلاده، رغم من سماهم “لوبي الخائفين” الذين يحبطون عزيمة الشعب.
وقال الرئيس التركي في كلمة ألقاها بمناسبة بدء بناء مصنع السيارة التركية “توغ” في ولاية بورصة: “الدول المنزعجة من تنامي قوة تركيا وزيادة ثقتها بنفسها بدأت حملة دعاية سوداء لتشويهها”، مضيفا “كافة أبناء شعبنا تبنوا مشروع صناعة السيارة، لأنها انعكاس لقوة دولتنا وقدرتها الإنتاجية”.
سيارة كهربائية
وحاول الأتراك منذ 70 عاما صنع سيارة، وكانت السيارة الأولى “ديفريم” التي أنتج منها 4 سيارات فقط، لكن لم يكتب لها النجاح في عام 1961، كما جرت محاولات أخرى ولم تحقق حلم الأتراك، إلى أن قاد الرئيس أردوغان بنفسه السيارة التركية “توغ”، حيث تمكنت 5 شركات تركية تعاونت معا من إنتاج السيارة التي ستطرح في الأسواق بعد عامين بحسب التقديرات.
وبدأ تطوير السيارة في يونيو/حزيران 2018، عندما اجتمع 5 من عمالقة الصناعة التركية: مجموعة الأناضول، ومجموعة كوك، وشركة الاتصالات تُركسل، وزورلو القابضة، واتحاد الغرف والتبادل السلعي في تركيا؛ لإنشاء سيارة محلية.
وحشدت تركيا 750 مليون ليرة تركية (أكثر من 126 مليون دولار) لتمويل الابتكار والتنمية المحلية، وفقا لوزير الصناعة والتقنية مصطفى فاراناك. وستأتي السيارة الكهربائية التركية الأولى في 5 طُرز يُنتج منها 175 ألف وحدة سنويا.
وبلغت قيمة الاستثمار في مشروع إنتاج السيارة التركية 3.7 مليارات دولار، وضمنت الجهات المستثمرة بيع 30 ألف سيارة ستنزل للخدمة في 2022 بعد أن تم حجزها مسبقا، علما بأن السيارة ستعمل بالطاقة الكهربائية بنسبة 100% وبنظام تحكم ذاتي.
ولا يقتصر الأمر لدى تركيا على مجرد تحقيق الحلم الوطني بإنتاج سيارة محلية، بل إن الأموال التي تصرفها البلاد على السيارات -كما يقول الخبير الإستراتيجي حسن بصري يالجين- من أكبر الثقوب في ميزانيتها، حيث تُباع مئات الآلاف من السيارات كل عام في تركيا، ولكن الأرباح تصب في خزائن الشركات الأجنبية.
وفضلا عن أرباح السيارات، فإن كون السيارة مصممة للعمل بالطاقة الكهربائية سيخفف من استهلاك تركيا للوقود بشكل كبير، وهو ما سيقلل من مصاريفها واعتمادها الخارجي.
ويمكن للسيارة الذكية أن تساعد في عدة أمور، مثل التسوق من الإنترنت، وتسليم المشتريات إلى السيارة حتى إن لم يكن سائقها موجودا.
وقال محمد غورجان قره قاش الرئيس التنفيذي للشركة الصناعية التجارية المساهمة في مبادرة إنتاج السيارة التركية، إن بلاده ستطرح سيارتها الكهربائية المحلية في الأسواق منتصف 2022، وإن السيارة ستكون جاهزة للقيادة الذاتية فور نزولها الأسواق بنفس مستوى السيارات المنافسة.
وأضاف أن مجموعة مبادرة إنتاج السيارة المحلية “توغ” ستشكل نظاما بيئيا متنقلا يضم وحدات الشحن وأدوات التوصيل والصناعات الجانبية في قطاع السيارات، وأن المجموعة تضم شركات يمكنها التعاون لإحداث طفرة في قطاع التكنولوجيا بتركيا.
مكانة تركيا
وذكر الباحث المختص في الاقتصاد التركي أحمد مصبح أن كون السيارة التركية كهربائية اقتصادية ومتطورة بمواصفات حديثة وعصرية، ينعكس على ارتفاع سعرها.
وتشير التقديرات إلى أن سعرها سيكون في حدود 30 ألف دولار (200 ألف ليرة تركي)، كما أن التسهيلات الائتمانية التي يوفرها قطاع البنوك خاصة مع انخفاض سعر الفائدة، ستساهم في تسويقها.
وقال مصبح للجزيرة نت “في ظل توجه الحكومة لتصدير هذا النوع من السيارات واستهداف الأسواق الخارجية، سوف تتمكن من المنافسة العالمية وإن كان بصورة تدريجية ونسبية”.
ولفت إلى أن طرح هذا النوع من السيارات يعزز فرص رصيد الميزان التجاري، ويقلل عجز الحساب الجاري، ويساهم في خلق فرص عمل أكثر بين الأتراك، كما يعزز الصادرات ذات القيمة المضافة العالية التي يظهر أثرها بصورة أكبر على المؤشرات الاقتصادية.
وأضاف الباحث الاقتصادي “تكمن أهمية هذه المشاريع للاقتصاد التركي لدورها في تعزيز مكانة تركيا على صعيد الصناعات الثقيلة، وهو ما يعتبر حجر أساس في تحول تركيا لسياسات التصنيع، والمساهمة في نقلها نحو التنمية الاقتصادية المستدامة”.
وأشار مصبح إلى أن مشروع السيارات بصفة خاصة يتواكب مع التوجه العالمي المتعلق بزيادة الاعتماد على الطاقة النظيفة في الأعوام القادمة، وهو ما سيمنح تركيا مكانة متميزة عالميا على هذا الصعيد.
ويرى أن تركيا تشهد تطورا ملحوظ على صعيد الصناعات الثقيلة والمتطورة مثل القطارات والطائرات العسكرية والمعدات العسكرية ومشروع السيارات الكهربائية، وهو ما سيساهم بشكل بارز في تعزيز مكانة تركيا على الصعيدين الاقتصادي والسياسي.
ثورة صناعية
وشهدت العشرية الأخيرة ثورة عملاقة في الصناعات الاستهلاكية، خاصة فيما يتعلق بالمنتجات الغذائية والأدوات، وفي مجالات الصناعات البحرية وتصدير المعادن والصلب والأثاث والمفروشات وغيرها.
ومن دون نفط ولا غاز طبيعي أو حتى معادن ثمينة، حققت تركيا في العام الماضي رقما قياسيا في قيمة صادراتها التي زادت على 180 مليار دولار، وتخطط لرفعها إلى 190 مليارا مع نهاية 2020.
ويمثل الإنتاج الصناعي المورد الأهم للعملة الصعبة، حيث بدأت تركيا فعليا إنتاج سيارتها القومية بتقنية محلية بنسبة 100% مطلع هذا العام، بينما بلغت عائدات صناعة وتصدير السيارات وقطعها خلال عام 2019 قرابة 32 مليار دولار.
وفي عام 2019، صنّفت مجموعة “إتش إس بي سي هولدينغز” (HSBC Holdings) تركيا في المرتبة السابعة عالميا، في قائمة أفضل البلدان للعيش والعمل، بينما حافظ جيشها على موقعه في مقدمة جيوش المنطقة، وكان عاشر قوة على مستوى العالم، ولا سيما بعد الطفرة التي حققها على صعيد الطائرات المسيرة مثل بيرقدار وأقينجي.
وتولّد تركيا اليوم نحو 46% من احتياجاتها للطاقة من مشاريع الطاقة المتجددة لاستثمار طاقتي الشمس والرياح، وتتطلع لرفعها إلى 56% بحلول عام 2023.
كما أسست مشاريع طموحة في ولايتي أدرنة وفتحية لإنتاج الطاقة من تدوير النفايات، فضلا عن محطة “آق قويو” النووية التي تم وضع حجر الأساس لها في مرسين عام 2018.
وفي مجال التكنولوجيا، ارتفع عدد مراكز “تكنوباركس” -التي تضم شركات التقنية التركية- من مركزين في عام 2001 إلى 84 مركزا عام 2019، موزعة على 56 مدينة تركية.
ونجحت الحكومة التركية في إنجاز أول قمر صناعي محلي للمراقبة والرصد يحمل اسم “إيمجا”، وسيتم إرساله إلى الفضاء العام المقبل.
المصدر: الجزيرة