عالم فرنسي من أكبر علماء الاجتماع يحلل الجائحة.. فراغ هائل وانتقال وحشي وكارثة بدون زعماء ولا أفكار
يُعتبر عالم الاجتماع الفرنسي ألان تورين المولود عام 1952 من بين قلة من المفكرين الغربيين البارزين الذين عاصروا الجيل الذهبي لعلم الاجتماع، واشتهر بنقده لعلم الاجتماع القديم، ويرى في كتابه “نهاية المجتمعات” أن المؤسسات الاجتماعية المختلفة مثل العائلة والمدرسة وأنظمة الرعاية فقدت معناها في عصر العولمة.
وفي حوار هاتفي لصحيفة “ألباييس” الإسبانية، أدلى تورين برأيه في أزمة فيروس كورونا، وعلق على وصف كل من رؤساء فرنسا وإسبانيا وأميركا للوضع الحالي بأنه حالة حرب، قائلا إن الحرب تدور بين البشر أو دولتين على الأقل فيغزو جيش أراضي دولة أخرى. في المقابل، ما نعيشه حاليا هو مواجهة البشر لعدو لا بشري، مؤكدا أنه لا ينتقد استخدام مفردة الحرب، إلا أن ما يحدث حاليا هو حرب دون مقاتلين.
عالم غريب
وعلى المستوى الإنساني، اعتبر تورين أننا نعيش في عالم يفتقر إلى أطراف فاعلة، وقال إنه لم يسبق له أن رأى رئيسا أميركيا بمثل غرابة دونالد ترامب، ولا شخصية غير ملتزمة بالقواعد ولا بدورها الرئاسي بهذا الشكل، واعتبر أنه ليس من قبيل الصدفة أن تخسر الولايات المتحدة دور زعامة العالم. وفي أوروبا، نسجل غياب أقوى الدول. ولم يعد أحد يتصدر قمة هرم السلطة.
وبخصوص الأطراف الموجودة أسفل هذا الهرم، اعتبر تورين أننا نشهد اليوم سقوط الحركة العمالية، التي كانت تمثل أساس المجتمع الصناعي. ويعني هذا أنه لا وجود في الوقت الحالي لأطراف فاعلة اجتماعية أو سياسية أو عالمية أو وطنية أو طبقية. ولهذا السبب، يتناقض كل ما يحدث مع مفهوم الحرب، خاصة في ظل وجود آلة بيولوجية من جانب وأشخاص ومجموعات أخرى دون أفكار أو توجيه أو برنامج أو إستراتيجيات أو لغة.
وعن سؤال وجه له حول ما إذا كان قد عاش تجربة مماثلة في حياته، أجاب تورين أن الشعور ذاته انتابه أثناء أزمة عام 1929، فقد ولد قبل هذا التاريخ بقليل، حينها اختفى كل شيء ولم يتبق أحد لا في اليسار ولا الحكومات. لكن، سرعان ما ملأ الفراغ زعيم الحزب النازي أدولف هتلر الذي تولى منصب مستشار ألمانيا عام 1933.
وأضاف تورين أن أكثر ما يذهله في هذه الفترة، باعتباره عالم اجتماع ومؤرخا للحاضر، أنه لم يشعر بهذا الفراغ منذ فترة طويلة جدا، مضيفا “هناك نقص في الأطراف الفاعلة والأفكار. لا وجود حتى لعلاج أو لقاح. لا يملك العالم أسلحة، والجميع محبوسون بمفردهم”.
ذكريات سوسيولوجي تسعيني
وعن ذكرياته حول الحرب العالمية الثانية، حين كان عمره 14 عاما عام 1940، قال تورين إنه بالنسبة لفتى فرنسي في عمره ذلك الوقت، لم يكن هناك ما هو أكثر ابتذالا من الحرب الفرنسية الألمانية، لقد تواجه البلدان عدة مرات. وفي الواقع، أثرت الإدارة العسكرية في فرنسا على فترة شبابه. أما اليوم فيحدث أمر مخالف، إذ يعيش العالم حالة فراغ، دون نقاش أو تحرك أو فهم.
وأفاد تورين بأن العالم وصل إلى هذه المرحلة، بعد سيطرة الغرب عليه لما يقرب من خمسمئة عام، وأن الدول تؤمن اليوم بأنها كانت تعيش على مدى السنوات الخمسين الأخيرة في عالم تتزعمه الولايات المتحدة الأميركية.
ويتابع “ربما سنعيش اليوم في عالم صيني، إلا أن ذلك ليس بالأمر المؤكد، فأميركا تغرق والصين تعيش وضعا متناقضا، لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، ذلك أنها تريد ممارسة الشمولية الماوية لإدارة النظام الرأسمالي العالمي. وهكذا، نجد أنفسنا في انتقال وحشي لم يتم إعداده أو التفكير فيه مسبقا”.
وأضاف أن الوضع الحالي لا يثير مخاوفه الخاصة، لأن حياته تدور عادة حول البقاء في المنزل للعمل، فضلا عن أنه يشعر بنوع من الحماية في ظل ظروف عيش يتقاسمها مع الآخرين.
القومية والفاشية
وفي تعليقه عن إمكانية عودة القومية والشعبوية، أشار تورين إلى قرارين أساسين أمام أوروبا، وهما التحرر بواسطة النساء، وهذا يعني سقوط العقل باعتباره مركز الشخصية، وإعادة الاعتبار للأحاسيس والتواصل، ثم تحديد الموقف من استقبال المهاجرين، معتبراً أنه في الوقت الحالي، سيحدد موقف البلدان من المهاجرين مصيرها.
واعتبر تورين أنه حتى مع تداعياته الاقتصادية والعادات الاجتماعية الجديدة المبنية على التباعد وظهور أولويات جديدة، لن يغير فيروس كورونا كل المعطيات، فستكون هناك كوارث أخرى مستقبلية.
ويعتقد أننا ندخل نوعا جديدا من “مجتمع الخدمات بين البشر” كما أشار الاقتصاديون، متنبئاً بأن تدفع هذه الأزمة فئة مقدمي الرعاية إلى القمة، إذ لا يمكنهم الاستمرار في تلقي رواتب زهيدة. وفي الوقت نفسه، في ظل هذه الأزمة، هناك احتمالات بأن تؤدي صدمة اقتصادية إلى ردود فعل نعتها تورين بالفاشية.
يعد تورين من رواد علم الاجتماع المعاصرين الناقدين للسوسيولوجيا التقليدية والمدرسة الوضعية، ويركز على دراسة الحركات الاجتماعية، ويعرف بنزعته الإنسانية وتحذيره من مخاطر الحروب والحداثة الغاشمة.