بعد ترنح قواته أمام الجيش الليبي..حفتر يبحث عن مخرج مشرف
حفتر يشترط ضمانات لانسحاب محتمل من محيط طرابلس، ويريد ضمانات من القوى الحاكمة في طرابلس، ويطلب تعيينات في مناصب مهمة بالدولة، تصريح خطير للمبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة، يعكس حالة اليأس، والرغبة في إيجاد مخرج مشرف للواء المتقاعد خليفة حفتر، بعد سلسلة نكسات وهزائم منيت بها قواته جنوب العاصمة طرابلس، جعلت روحها المعنوية في الحضيض.
ورغم أن البعثة الأممية حاولت التملص من هذا التصريح الذي أثار ضجة إعلامية في ليبيا، بالتزامن مع تأكيد المتحدث باسم قوات الشرق أحمد المسماري، أن “حفتر لم ولن يفاوض يوما على منصب”، إلا أن الوقائع على الأرض تشير أن قوات حفتر تترنح، خاصة بعد هزيمتها في مدينة غريان (100 كلم جنوب طرابلس)، ووصول قوات الوفاق إلى مشارف مدينة ترهونة (90 كلم جنوب شرق طرابلس).
تقدم سريع وكاسح
فقوات حفتر اكتسحت أجزاء واسعة من مدن غرب ليبيا، مع بداية الهجوم في 4 أبريل/ نيسان الماضي، وفي ظرف قياسي، شملت دخول مدن غلاف طرابلس في اليوم الأول دون قتال، صبراتة وصرمان (70 كلم غرب طرابلس) وغريان وترهونة.
وقبل أن ينقضي الأسبوع الأول من الهجوم، أكملت قوات حفتر سيطرتها على مدن منطقة ورشفانة، وعلى رأسها عاصمتها العزيزية (45 كلم جنوب طرابلس)، وبلدات الزهراء والكريمية والعامرية والساعدية.
وانضمام اللواء التاسع ترهونة القوي إلى قوات حفتر، زاد من جراح طرابلس، بعد أن اندفعت وحداته نحو العاصمة، واكتسحت في طريقها بلدات الاتجاهات الأربع (سوق الخميس امسيحل، والسبيعة، وسوق الأحد، وسوق السبت).
كانت أحياء طربلس الجنوبية تتساقط الواحدة تلو الأخرى وكأنه لا توجد أي قوة بإمكانها صد هذا الزحف الجارف القادم من الشرق، فسقط حي قصر بن غشير، ثم تقدمت قوات حفتر فسيطرت على أجزاء واسعة من حيي عين زارة ووادي الربيع، ثم وضعت يدها على حي السواني بدعم من الخلايا النائمة، قبل أن تنقض على مطار طرابلس القديم والاستراتيجي.
وخلال أيام فقط من هجوم حفتر، كانت طرابلس أشبه بفريسة قضمت أجزاؤها السفلية، وتستعد لتلفظ أنفاسها الأخيرة، حتى وإن بقيت أجنحتها الغربية والشرقية عصية على الهضم.
من الهجوم إلى الدفاع
لكن مع بداية الأسبوع الثاني، ووصول الإمدادات من مدن مصراتة (200 كلم شرق طرابلس)، والزاوية (45 كلم غرب طرابلس)، والزنتان (140 كلم جنوب غرب طرابلس)، التقطت العاصمة أول أنفاسها، وتمكنت من وقف الزحف الأسود القادم من الشرق، وتم تثبيت قوات حفتر، وتشكيل حائط صد قوي حول وسط العاصمة، ونقاط ارتكاز متينة يصعب اختراقها على غرار معسكري اليرموك والنقلية.
كمرحلة ثانية بدأت قوات الوفاق استرجاع المناطق التي ضيعتها في بداية الهجوم، فتم تحرير العزيزية وبلدات ورشفانة جميعها، واستعادة حي السواني الاستراتيجي المحاذي للمطار القديم من الجهة الغربية.
كما عملت قوات الوفاق على تقطيع خطوط إمدادات قوات حفتر، الطويلة والممتدة على ألف كيلومتر، برا وجوا، بل واستهداف قاعدة الجفرة الجوية (600 كلم جنوب شرق طرابلس)، مركز تحشيد الجنود والإمدادات، ما ضاعف معاناة قوات حفتر في الجبهات الأمامية بسبب نقص الوقود والمؤن والذخائر.
وهذا ما يفسر تسليم عناصر تابعين لحفتر أنفسهم في أكثر من جبهة، واعترافهم بأن معنويات زملائهم منهارة، وهروب بعضهم من ساحات القتال إلى أهاليهم في الشرق الليبي، أسرت وحدات المحور الجنوبي لحكومة الوفاق بعضهم قرب منطقة الشويرف (400 كلم جنوب شرق طرابلس).
وبعد أن أوشكت قوات حفتر على حسم معركة طرابلس خلال أيام، مرت الشهور دون أن تحقق أي تقدم أو انتصار يستحق الذكر، إلا إذا استثنينا القصف الجوي والصاروخي الذي أوقع أعدادا كبيرة من الضحايا المدنيين وحتى مهاجرين، ما وضع حفتر وقادة أركانه تحت تهديد المحاكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وأفقده الحرب الأخلاقية وأحرج حلفاءه الدوليين، وخاصة فرنسا.
خسر حفتر القوس الغربي من القتال بكامل محاوره (السواني، كوبري الزهراء، العزيزية، الكريمية الساعدية العامرية، الهيرة، بوشيبة الكسارات)، لكن خسارة غريان، كانت الأكثر جللا، نظرا لاحتوائها على غرفة عمليات قوات حفتر الرئيسية، وانكشاف التورط الفرنسي في دعم حفتر بعد اعتراف باريس بأن صواريخ جافلين المضادة للدروع التي استولت عليها قوات الوفاق في غريان، تعود ملكيتها لها.
كما تمكنت قوات الوفاق من التقدم 30 كلم ما وراء غريان، والاستيلاء على مهبط غوط الريح للمروحيات، الذي استخدم أيضا مهبطا لطائرات دون طيار، كانت تقصف العاصمة.
حاليا انتقلت قوات الوفاق إلى المرحلة الثالثة، فبعد صد الهجوم وتثبيت قوات حفتر، ثم استرجاع مناطق ضيعتها مع بداية الزحف، تحولت إلى الهجوم على المناطق التابعة لحفتر، ما وضع قواته في حالة دفاع.
فمع نهاية أغسطس/ آب الماضي، تقدمت قوات الوفاق من محاور القره بوللي والقويعة والنشيع والزطارنة (شرقي العاصمة) إلى غاية مشارف ترهونة، وأجبرت اللواء التاسع على الانسحاب، للمرة الأولى منذ هجوم طرابلس، إلى ما وراء الحدود الإدارية للمدينة.
وبشكل غير مسبوق، كثف طيران الوفاق غاراته على ترهونة ومحيطها، مستهدفا تمركزات اللواء التاسع، الذي طالما قصفت وحداته أحياء العاصمة المكتظة بالسكان، ونكّل بأسرى الوفاق حتى الموت.
الوفاق تستعين بخطة رومانية
رغم أن الهدف الرئيسي لقوات الوفاق طرد كتائب حفتر من الضواحي الجنوبية للعاصمة، إلا أن ترهونة تمثل مربط الفرس، فالسيطرة عليها تعني انهيارا طبيعيا لقوات حفتر في الجبهات الأمامية، لأنها ستكون حينها محاصرة من كل الاتجاهات، ودون مؤن ولا ذخائر ولا إمدادات، وسيضطر اللواء التاسع إلى سحب رجاله من طرابلس لحماية مدينته من السقوط، أو مقايضتها بأحياء العاصمة التي يسيطر عليها إن كانت سقطت.
وهذا التكتيك العسكري قديم، استخدمه الرومان خلال الحرب البونيقية الثانية (218 ـ 203 ق.م)، عندما حاصر القائد القرطاجي حنبعل، عاصمتهم روما 15 عاما بعدما عبر مضيق جبل طارق، واستولى على أجزاء واسعة من إسبانيا وفرنسا وإيطاليا، فقام الرومان باحتلال عاصمة بلاده قرطاج (تونس) وتدميرها، ما أدى إلى انهيار جيشه فيما بعد.
وكذلك الهجوم على ترهونة سينقذ عاصمة الوفاق، وينقل ساحات المعارك من الضواحي الجنوبية لطرابلس إلى شوارع وأحياء ترهونة نفسها، ولن يكون لعناصر اللواء التاسع سوى الرجوع إلى الديار لحماية أهاليهم وأملاكهم من قوات “بركان الغضب”، ما سيُربك ويزعزع مواقعهم الصلبة جنوبي العاصمة.
فترهونة أصبحت شبه محاصرة، وقوات الوفاق تضغط عليها من الشمال من جهة القره بوللي، ومن الغرب حيث كثفت هجماتها على بلدتي السبيعة وسوق الخميس، لقطع خط الإمداد بين ترهونة وقصر بن غشير والمطار القديم.
كما يمكن لقوات الوفاق مهاجمة ترهونة من جهة الشرق عبر مدينة مسلاتة (شمال شرق ترهونة)، وقطع طريق الإمداد من جهة الجنوب بين ترهونة ومدينة بني وليد (180 كلم جنوب طرابلس)، التي تمثل قاعدة إمداد خلفية لكنها منقسمة الولاء مثل مدينة الزنتان (170 كلم جنوب غرب طرابلس).
وسكان ترهونة يعانون منذ بداية العدوان على طرابلس، من شح الوقود (توقفت إمداداته شهرا كاملا)، وحتى من أزمة مياه منذ أربعة أشهر، ناهيك عن نقص السيولة المالية، فالوضع في المدينة مأساوي، واستمرار القتال يزيد عزلة هذه المدينة الجبلية، التي تفتقد إلى مطار أو منفذ بحري.
وسقوط ترهونة سيكون مفتاحا لإعادة تثبيت سيطرة “الوفاق” على بني وليد “المتأرجحة”، ومنه الهجوم على قاعدة الجفرة الجوية الاستراتيجية، وإنهاء تواجد قوات حفتر في مدن وبلدات إقليم فزان (جنوب غرب).
مرزق تكشف هشاشة قوات حفتر بالجنوب
وعجز قوات حفتر عن استعادة مرزق، رغم استخدامها سلاح الطيران، وإرسال كتيبة كاملة للسيطرة على الوضع، مؤشر على هشاشة سيطرتها على فزان.
فاستعادة قوات الوفاق لهذه المنطقة الشاسعة والقليلة السكان لن تكلفها الكثير، شريطة أن يكون ذلك بتوافق مع قبائل الجنوب، مثلما فعلت ذلك القوة الثالثة التابعة لكتائب مصراتة في 2014، خاصة أن قوات حفتر سحبت جزءا هاما من كتائبها من الجنوب لتركيز قوتها في طرابلس.
لذلك فوضع قوات حفتر بعد أكثر من خمسة أشهر من القتال، لا يوحي أنها في طريقها نحو “النصر القريب” الذي بشّر به حفتر منذ أكثر من شهر ونصف.
فقواته القادمة من الشرق، فقدت حماستها للقتال وتتشوق للعودة إلى الديار، أما كتائب الزنتان فهجوم طرابلس قسمها، وتوشك أن تنفجر من الداخل، في حرب أهلية قد لا يسلم منها أي بيت في المدينة، أما كتائب ورشفانة فخسرت جميع مدنها وبلداتها، وقادتُها يتلقون طعنات من الظهر على يد اللواء التاسع ترهونة، الذي تتعرض مدينته لقصف لم تشهد مثيلا له من قبل، وهي تحت تهديد اقتحامها من الجيش الليبي الموالي للوفاق.
المشهد العسكري أمام حفتر ليس مثاليا، فالضغط الأممي والدولي يزداد عليه، وفرنسا تتراجع خطوات إلى الوراء في دعمه، ومصر لا تريد أن تتورط في حرب استنزاف بليبيا، أما الإمارات فالأضواء مسلطة عليها بكثافة، ولا أحد يدري كم ستصمد في استنزاف رصيد “الميراث الأخلاقي” الذي تركه المرحوم الشيخ زايد، مؤسس الدولة.
وسواء كان الكلام الذي نقلته صحيفة “ليبيراسيون” الفرنسية، على لسان غسان سلامة، صحيحا أو غير دقيق، فإن حفتر لم يبق له سوى التفاوض لإنقاذ نفسه وقواته وبلاده من السيناريو الأسوأ.